عندما يتحدّث الاقتصاديون والسياسيون عن أسباب غلاء الأسعار، يشعر المواطن البسيط بنوع من عدم الاطمئنان إلى كلامهم الذي يُردّدونه .. ذلك أن المشكلة بالنسبة للمواطن البسيط لا تكمن في الإشكاليات الاقتصادية الكبرى التي يقدمها ’’المختصون‘‘

 

 

بقلم: سعيد منصفي التمسماني

 

البساطة هي خلاف التركيب والتعقيد. وبسَّطَ الموضوعَ، أي سهَّل فهْمَه وجعله بسيطا لا تعقيد فيه. والبسطاء في عنوان المقال، نقصد بهم من هم على الفطرة، والذين يعرضون الكلام بدون تكلف ولا تصنُّع .. ولعَلّ أجمل شيء في أيامنا هذه، أن يعيش المرء حياة البسطاء .. ولعَلّ أعظم الناس عبْرَ التاريخ، من جنحوا للبساطة في معيشتهم وفكرهم، وبسَّطوا العلوم والتعاريف والإشكاليات الكبرى فجعلوها تبدو سهلة المنال أمام الطالبين.

استحضرْتُ البساطة والبسطاء وأنا أتابع خلال هذه الأيام بعض المسؤولين السياسيين وبعض من يُعرفون باسم ’’المحللين الاقتصاديين‘‘ وهم يحاولون تفسير أسباب الغلاء الذي أصاب الأسواق وأتعب الناس ونال منهم. لكن تفسيراتهم لم تزد الأمر إلا غموضا.

عندما يتحدّث الاقتصاديون والسياسيون عن أسباب غلاء الأسعار، يشعر المواطن البسيط بنوع من عدم الاطمئنان إلى كلامهم الذي يُردّدونه عَبْر القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية. ذلك أن المشكلة بالنسبة للمواطن البسيط لا تكمن في الإشكاليات الاقتصادية الكبرى التي يقدمها ’’المختصون‘‘ ولا يكفّون عن تكرارها، كحديثهم عن الظرفية الدولية، والتضخم، والإصدار النقدي المفرط، وانخفاض الإنتاج، وعجز الحساب الجاري للدولة، وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الشحن، وغير ذلك من الظواهر الاقتصادية المعقدة التي يُعبِّر عنها أصحابها بلغة تقنية مقتضبة تتخللها كلمات وعبارات أجنبية مختصرة شبيهة بالألغاز، وأحيانا ببيانات مصورة يكاد الناظر إليها يضيع بين خطوطها وألوانها قبل أن يدرك شيئا من معانيها.

إن مشكلة المواطن العادي بسيطة كبساطة معيشته اليومية، لا تتخللها أرقام كبيرة، ولا أسهم في شركات مجهولة الاسم أو في ’’بورصات‘‘ عالمية، ولا عمليات مالية معقدة، فحياته الاقتصادية تتراوح بين مداخيل محدودة ومصاريف معلومة، وربما قد تتعدى ذلك في بعض الحالات إلى مدّخرات متواضعة .. وهذا كل شيء، ولا يحتاج المرء إلى لغة تقنية خاصة أو بيانات ومعادلات اقتصادية مركّبة للتعبير عن وضعه المادي، لأن مؤشر المؤشرات لدى المواطن العادي هو بكل بساطة: ’’جيبهُ‘‘ الشخصي.

كما أن أسئلة المواطن العادي بسيطة كبساطة فطرته، لكنها عميقة بعمق تجاربه. وأسئلته تصيب كبد الإشكالية دون تكلف أو تصنُّع، فنجده يسأل عن ارتفاع أسعار بعض المواد التي تُعَد دولته من ضمن أكبر المنتجين لها، ونجده يسأل عن سبب انخفاض سعر نفس تلك المواد في بعض الدول المستوردة لها. كما أنه يسأل عن استمرار ارتفاع الأسعار في ظل انخفاض أسعار الطاقة وتَحسُّن ميزان الصرف، وعن ضوابط تصدير بعض المواد الأساسية المُنتجَة محليا، وغير ذلك من الأسئلة البسيطة في ظاهرها، المحرجة في باطنها. لكن السؤال الأكبر الذي يطرحه المواطن البسيط، هو: لماذا على البسطاء أن يتحملوا دائما فاتورة الكوارث والأوبئة والحروب وثقلها بينما يزداد الأثرياء ثراءً وترتفع قيمة أسهمهم وأصولهم المالية؟؟ أين هي المساواة فيما يحصل؟ وأين هو التضامن والعدل في هذا المشهد؟ وأين هي الحقوق الاقتصادية المنصوص عليها في الدساتير والمواثيق الدولية؟؟

إن أمثال هذا الصنف من المواطنين يشكلون الأغلبية الاجتماعية في الدول النامية، ولا يبعد المرء إذا قال إنهم الأغلبية ضمن سكان المعمورة. وتحليلهم للأوضاع الاقتصادية بصدقه وبساطته هو في جوهره أقرب إلى الحقيقة من تحليلات ’’خبراء الاقتصاد‘‘ الذين يطلون علينا باستمرار من شاشات التلفاز. إن هؤلاء أصبحوا أشبه  بــ ’’عرّافي حقبة ما قبل الحداثة‘‘ حسب تعبير السياسي والاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس في كتابه الجميل تحت عنوان ’’الاقتصاد كما أشرحه لابنتي‘‘. وأقتبس فقرة من هذا الكتاب يقول فيها المؤلف: ’’بصفتي أستاذا في علم الاقتصاد، اعتقدت على الدوام أنّه إن لم يكن في وسعكم شرح الاقتصاد بلغة يستطيع الشبان فهمها، فأنتم ببساطة شديدة جاهلون. ومع مرور الزمن، أدركت أمرا آخر، تناقضا ممتعا يتعلق بمهنتي، عزّز هذا الاعتقاد: كلما أصبحت نماذجنا عن الاقتصاد أكثر علمية، قلّ ارتباطها بالاقتصاد الحقيقي القائم. وهذا تحديدا عكس ما يحدث في علم الفيزياء والهندسة وبقية العلوم الحقيقية، حيث تسلّط زيادة التطوّر العلمي مزيدا ومزيدا من الضوء على كيفية عمل الطبيعة في الواقع‘‘. –انتهى الاقتباس-

البسطاء في زمننا هذا وأمام موجة الغلاء العاتية التي نشهدها، ما عادوا يشترون ما يهوون، ولم تعد لذة الشراء تدفعهم ساعة الذهاب إلى الأسواق والمتاجر، بل ضرورات الحياة وعبء الحاجات. وهذه الضرورات وهذه الأعباء يستغلها بعض المضاربين الكبار لعلمهم باختلال العرض أمام الطلب ودرايتهم بحاجة الشارين لها وخضوعهم في نهاية المطاف لمستلزمات الحياة وضروراتها.

إن الإيديولوجيا الاقتصادية المُهيمنة في الوقت الحاضر قد شرعنت التفاوتات المادية والتوزيع غير المتساوي للثروة، وثبّتت عقيدة السوق المُتَحَكَّمِ فيه بواسطة ’’اليد الخفية‘‘ كما تصورها آدم سميث مؤسس علم الاقتصاد الحديث. بينما أضحى الحديث عن مكانة القيم والأخلاق في الاقتصاد، ضرباً من ضروب الخيال والطوباوية ومبعثًا لسخرية ’’خبراء الاقتصاد‘‘ المؤمنين بتفاخر كبير بـ ’’البراغماتية‘‘ وأولويات المصالح العامة. غير أن ما يصفونه بالمصالح العامة هو في حقيقته ولُبّه عبارة عن مصالح للخاصة. ولو جرى تحديد المصلحة العامة على منطق مقياس الأغلبية لكانت مصلحة البسطاء هي المصلحة العامة ولَوَجَبَ تقديمها على سائر المصالح الأخرى .. لكن الأمور في زمننا لا تسري على هذا المنوال.

X