إفلاس بنوك سيلفرغيت وسيليكون فالي وسيغنيتشر في أميركا، واستحواذ بنك يو بي إس على كريدي سويس في سويسرا..
أثار الانهيار المفاجئ لأربعة بنوك أمريكية في الأسابيع الماضية العديد من التساؤلات بشأن الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا ورأس المال الاستثماري وصناعة العملات المشفرة والنظام الرأسمالي العالمي بشكل عام واللوائح المعمول بها أثناء الأزمات المالية.
بداية الانهيار
كان بنك “سيلفرغيت” المتخصص بشدة في صناعة العملات المشفرة، أول مؤسسة مصرفية أمريكية تعاني من صعوبات مالية، وأعلن في 8 مارس/ آذار الجاري إنهاء عملياته بسبب الخسائر الفادحة في محفظة قروضه.
أدى الانهيار الداخلي لبورصة العملات المشفرة (FTX) أواخر العام 2022، والتي كانت ثاني أكبر بورصة في العالم من حيث المعاملات اليومية، في المقام الأول إلى انهيار بنك سيلفرغيت نظرا لأن FTX كانت عميلا رئيسيا للبنك.
وفي نفس التاريخ، أعلن بنك وادي السيليكون (SVB) عن مواجهته صعوبات مالية، ما أثار دهشة العالم المالي والمستثمرين في الولايات المتحدة، حيث كان يُنظر إلى البنك على أنه مؤسسة ذات رأس مال قوي.
يقع بنك وادي السيليكون في سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا، قلب منطقة التكنولوجيا بالولايات المتحدة، ويعد أكبر بنك في وادي السيليكون على أساس حجم الودائع المحلية ومن بين أكبر البنوك في البلاد.
كان البنك مصدرا رئيسيا لرأس المال الاستثماري لتمويل الشركات الناشئة الخاصة، معظمها في مجال التكنولوجيا، والتي تمتلك إمكانات نمو ضخمة تشبه شركات مايكروسوفت وآبل وغوغل.
بدأ انهيار بنك وادي السيليكون أواخر فبراير/ شباط 2022 عندما سحب بعض كبار المسؤولين أسهمهم.
وتم الإعلان لاحقا عن قيام الرئيس التنفيذي جريجوري بيكر، والمدير المالي دانيال بيك، وميشيل دريبر، كبير مسؤولي التسويق، عن بيع أسهمهم بقيمة 4.5 ملايين دولار من الشركة الأم للبنك “مجموعة وادي السيليكون المالية”.
وعندما باع البنك محفظته من السندات بقيمة 21 مليار دولار بخسارة 1.8 مليار دولار، وإعلان بيكر بيع البنك “كامل محفظته من الأوراق المالية”، عصف الذعر لدى وول ستريت والصناعة المالية الأمريكية.
وبحلول نهاية عام 2022، كان لدى البنك نحو 209 مليارات دولار من إجمالي الأصول ونحو 175.4 مليار دولار من إجمالي الودائع، وكان من غير المعتاد أن تتعرض مؤسسة ذات رأس مال جيد للانهيار فجأة.
وفي أقل من 48 ساعة، انخفض سعر سهم الشركة الأم للبنك بأكثر من 60 بالمئة، بينما توقف تداولها عدة مرات بسبب التقلبات العالية.
أكبر إغلاق في وادي السيليكون
وسط الانهيار المفاجئ، تم إغلاق البنك على الفور من قبل المنظمين الأمريكيين، وعينت وزارة الحماية المالية والابتكار في كاليفورنيا مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية (FDIC) كمستلم للبنك.
باشرت مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية في انشاء البنك الوطني للتأمين على الودائع في سانتا كلارا (DINB) لحماية المودعين المؤمن عليهم، بينما قامت فور الإغلاق بتحويل جميع الودائع المؤمنة من بنك وادي السيليكون إلى البنك الوطني للتأمين على الودائع.
كان هذا أكبر فشل لمؤسسة مالية في الولايات المتحدة منذ انهيار بنك واشنطن ميوتشوال في ذروة الأزمة المالية عام 2008، والتي نشأت عن فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة التي تم بناؤها في البداية على الرهون العقارية عالية المخاطر وخلقت لاحقا تداعيات، مثل التزامات الدين المضمونة السامة، والتي تم المبالغة في تقييمها للأصول ذات التصنيف غير الهام لتحقيق المزيد من الأرباح.
وفيما تحولت الأزمة المالية في الولايات المتحدة لعام 2008 إلى كارثة عالمية، فإن أكثر ما يخشاه المستثمرون بشأن انهيار بنك وادي السيليكون هو تأثيره المتعاظم والمحتمل على إمكانية انهيار البنوك الأمريكية الأخرى.
المزيد من الانهيارات
وقع بنك “سقنتشر” في نيويورك، والذي يملك أصولا بقيمة 110 مليارات دولار وإجمالي رأس مال يبلغ 8 مليارات دولار، في مأزق عندما بدأ العملاء وهم في حالة ذعر بسحب ودائعهم.
تم إغلاق البنك من قبل وزارة الخدمات المالية بولاية نيويورك في 12 مارس، بعد أن أظهر البنك أنه غير قادر على تحسين وضعه المالي قبل صباح الاثنين 13 مارس وعودة التعاملات المالية.
ومع تحول الذعر إلى بيع كامل، بدأت أسهم البنك الأمريكي الرابع “فيرست ريبابليك”، وهو بنك متكامل الخدمات وشركة لإدارة الثروات، في الهبوط بأكثر من 20 بالمئة في 15 مارس.
وفي أقل من 24 ساعة، قام 11 من عمالقة البنوك الأمريكية الكبرى بضخ 30 مليار دولار من الودائع لإنقاذ بنك فيرست ريبابليك.
من المسؤول؟
تتطلب الأزمات المفاجئة كبش فداء فوري، فبعد الانهيار السريع لأربعة بنوك في الولايات المتحدة، تحولت الأنظار إلى المناصب القيادية في تلك المؤسسات المصرفية.
ألقى العديد من المحللين باللوم على ضعف الإدارة والقيادة الفعالة وممارسات إدارية فاسدة وعدم قدرة كبار المدراء التنفيذيين على التنبؤ بالتأثير المحتمل للاضطراب في سوق العملات الرقمية العام الماضي.
وفي خطابه عقب انهيار البنوك، أكد الرئيس جو بايدن أن النظام المصرفي الأمريكي والمودعين “في أمان” وتعهد في 13 مارس أن “دافعي الضرائب لن يتحملوا أية خسائر”.
وشدد على أن “المستثمرين والبنوك لن يكونوا محميين.. فقد خاطروا عن قصد، وعندما لا تؤتي هذه المخاطرة ثمارها، يخسر المستثمرون أموالهم. هذه هي الطريقة التي تعمل بها الرأسمالية”.
وكان بايدن نائبا للرئيس في ظل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي تجاوزت ركام الأزمة المالي عام 2008، والتي تبنت أنظمة مالية أكثر صرامة في وول ستريت.
ومع ذلك، فإن شعار الرأسمالية القائل إن “الطموح الفردي يخدم الصالح العام”، وفقا لآدم سميث، الفيلسوف الأسكتلندي في القرن الثامن عشر والذي يُلقب على نطاق واسع بـ “مؤسس الاقتصاد الحديث” أو “أبو الرأسمالية”؛ فإن سميث نفسه،في كتابه الشهير “ثروة الأمم” الذي نُشر عام 1776، كتب أنه “حيثما توجد ممتلكات كبيرة، يكون هناك تفاوت كبير.. ومقابل كل رجل غني جدا، هناك ما لا يقل عن 500 فقير، وثراء القلة يتطلب عوز الكثيرين”. وهذا يعني أن خلف كل بنك ناجح، هناك المئات من البنوك المنهارة.
هل الاحتياطي الفيدرالي هو المسؤول؟
حدثت العديد من الأزمات المصرفية في الولايات المتحدة خلال أكثر من 100 عام، وفي كل مرة تبتلع فيها البنوك أو الشركات الكبرى مؤسسات خاصة مفلسة أصغر حجما.
عندما تقدم بنك “ليمان براذرز” في نيويورك، الذي كان يمتلك أصولا تزيد قيمتها عن 600 مليار دولار، بطلب إفلاس في سبتمبر/ أيلول 2008، استحوذ بنك “باركليز” البريطاني متعدد الجنسيات على أعماله المصرفية الاستثمارية.
قام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي يتحكم في إجمالي المعروض من الدولار الأمريكي في العالم، بخطوتين رئيسيتين في السنوات الثلاث الماضية، بينها ضخ 5 تريليونات دولار فجأة في الاقتصاد الأمريكي أثناء وباء فيروس كورونا، ما تسبب في ارتفاع معدلات التضخم ورفع معدلات الفائدة بشكل سريع للغاية لخفض التضخم الذي قفز إلى أعلى مستوى في 40 عاما.
وشهدت سياسة التشديد النقدي للبنك الاحتياطي الفيدرالي العام الماضي زيادات في أسعار الفائدة بمقدار 425 نقطة في سبع مناسبات، تلتها زيادة أخرى في سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في الأول من فبراير/ شباط 2022 والتي حملت النطاق المستهدف لسعر صندوقه الفيدرالي إلى 4.5 بالمئة ثم إلى 4.75 بالمائة، مسجلة أعلى مستوى منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2007.
ويوم الأربعاء 22 مارس، تم رفع أسعار الفائدة للمرة التاسعة على التوالي بمقدار 25 نقطة أساس إلى نطاق 4.75 بالمئة – 5.0 بالمئة.
النقد والسيولة والسندات
يعتقد العديد من الاقتصاديين بشكل راسخ أن بنك الاحتياطي الفيدرالي تحرك بسرعة كبيرة وعالية جدا في رفع أسعار الفائدة، وسحب الكثير من الأموال من العرض العالمي للدولار، تاركا الاقتصاد الأمريكي دون سيولة كافية للاستثمارات الجديدة، خاصة في مجال التكنولوجيا.
يعد الإجراء الاستثماري الأكثر أمانا والأكثر شيوعا من قبل البنوك في ظل التشديد النقدي القوي هو شراء سندات الخزانة المضمونة من قبل حكومة الولايات المتحدة. ونظرا لأن السندات تنطوي على مخاطر منخفضة من التخلف عن السداد من قبل حكومة الولايات المتحدة، فإن لديها سعر فائدة ثابت ولكن بعائد ضئيل.
ونظرا لأن الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا كانت في حاجة ماسة إلى السيولة في العام الماضي بسبب انخفاض الإيرادات القائمة على الإعلانات، أصبح تمويل رأس المال الاستثماري في حالة جفاف ما تسبب في تعرض البنوك ذات الاستثمار التكنولوجي الكبير مثل بنك وادي السيليكون لرؤية عملائها يسحبون الودائع بشكل أكثر وأكثر.
وتؤدي عمليات السحب الكبيرة في النهاية إلى قيام أي بنك ببيع أصوله الخاصة من أجل تلبية طلبات سحب العملاء. ونتيجة لذلك، اضطر بنك وادي السيليكون لبيع ما يسمى بالسندات الآمنة بخسارة، ما أدى إلى إفلاس البنك، وهي النقطة التي يتعذر فيها على البنك سداد المودعين لأن التزاماته أكبر من الأصول التي يمتلكها.
**وماذا بعد؟
جميع الأزمات المالية سواء أثناء الكساد الكبير عام 1929 أو الركود العظيم عام 2008 أو انفجار فقاعة “الدوت كوم” عام 2000، أظهرت الحاجة إلى مزيد من اللوائح والرقابة الحكومية الأكثر صرامة.
لكن الشركات والبنوك والمؤسسات الخاصة تطالب بشدة بـ”اليد الخفية” لآدم سميث، والتي تعني أن يتصرف الفاعلون المستقلون من أجل مصلحتهم الذاتية في السوق الحرة دون أي تدخلات حكومية، مدعين أن ذلك سيكون أفضل للمجتمع بأسره.
كما يسعى المستثمرون إلى تحقيق أرباح ضخمة على استثمارات بمبالغ صغيرة جدا، مع تعطش لا يهدأ للرغبة في المخاطرة، الأمر الذي يمهد أحيانا الطريق للانهيار المفاجئ تماما كما حدث في انهيار البنوك الأخيرة.
وعلى الرغم من أن الأزمة المصرفية الحالية في الولايات المتحدة تتطلب على الفور إجراءات لمنع “تأثير الدومينو” ودرء إخفاقات البنوك الأخرى في البلاد وفي جميع أنحاء العالم، إلا أن الحل لهذه المشكلة يجب أن يعالج في نهاية المطاف الأسباب والتأثيرات الأكثر جوهرية لتكون درسا للرأسمالية وتحسين النظام الاقتصادي المهيمن للقرن الحادي والعشرين.
ورغم كل فترات الازدهار والكساد خلال المائة عام الماضية، لا يمكننا التخلص من الاقتصاد العالمي المعاصر والمترابط والنظام المالي الذي لا حدود له كونه يعالج احتياجاتنا الفورية للاستهلاك واعتمادنا المفرط عليه.
سيكون هناك دائما تكنولوجيا جديدة وشركات ناشئة جديدة ومخاطر جديدة ومكافآت، لكن ما سيبقى على حاله هو الصدام بين شهية الإنسان المحب للمخاطرة واللوائح اللازمة لتوفير التوازن.
(المصدر: الكاتب أوفونتش كوتلو/وكالة الأناضول)