ليس من السهل نسيان المشهــد: شرطيٌّ يضغط بركبته علــى رقبة رجل أســود، و الأخيــر يناشــده قائـلا  ’’لا أستطيع أن أتنفس‘‘، علّه يلمس فيه رحمة الإنسانية فيكف عن فعله.    

’’لا أستطيع أن أتنفس‘‘، صرخة قديمة، تتجدد  على وقع الأحبال الصوتية لمظلومي هذا العصر، الذي يتشدق فيه ’’الأسياد‘‘  بقيم العدالة والمساواة والديمقراطية، في حين تُخنَق أنفاس المستضعفين في كل يوم و في كل مكان على مرأى العالم  ومسمعه، فلا تتعدى ردات فعل أصحاب البذلات الرسمية، نطاق الشجب والإدانة، بينما تتوقف أنفاسٌ وترحل أرواحٌ في صمت مريب.

حدثت الجريمة في الخامس والعشرين من شهر مايو في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، فانطلقت موجة غضب منذ أن انتشر مقطع الفيديو الذي وثّق الفعل المستنكر، وما يزال الغضب مستوليا على نفوس المستضعفين، سودا و بيضا ..

لا يهم اللون ها هنا، بقدر ما يهم الألم الذي يحفر صدور الناس كلما تذكروا غبن الضحية وقلة حيلتها وهوانها على الأقوياء، فيتحول الألم إلى صرخة عارمةٍ جامعةٍ تُلمْلِم شتات المستضعفين في الأرض كي يثوروا ضد كل رمز من رموز الاستعباد والكراهية والظلم وضد كل صنمٍ صنعته الأكاذيبُ وأيادي مُزوّري التاريخ و الحقائق.

كلما مرت الأيام منذ يوم الثلاثاء 25 مايو، كلما تجلت الحقائق، وتكشّف الظلم أكثر فأكثر، في أبشع صوره، وسقط القناع، وتبدَّت بعض النفوس المريضة على حقيقتها الداّلة على حقد دفين واستعلاء في الأرض وحُبٍّ للظلم كبير وشهوة في القتل دون مبرر سوى غريزة الشر المستولية علـى النواصي …    

أوردت قناة س.ن.ن الأمريكية خلال اليومين الماضيين نصا يوثق الكلمات بالحرف من الكاميرات على بزتي الشرطيين المتهمين بموت جورج فلويد.     

والذي قدم النص المذكور، هو محامي الدفاع للشرطي السابق طوماس لين، لاستخدامه كدليل لتبرئة موكله.    

النص يعرض معلومات جديدة لما حدث حقا قبل اللحظات الأخيرة من مفارقة جورج فلويد للحياة، وهي معلومات، في حقيقة الأمر مؤلمة جدا، وربما تصيب سامعيها بحزن عميق و خيبة أمل إلى درجة فقدان الثقة في الإنسان، نظرا لما يبديه هذا الإنسان من عنف وحقد ضد أخيه. 

تبين الوثيقة أن الشرطيين كانا يستجيبان لشكاية عن استخدام عملة ورقية مزيفة من طرف فلويد بقيمة 20 دولارا. وعندما تم توقيفه، قال لهما إنه يعاني من رهاب الأماكن المغلقة، و بدا أنه أظهر نوعا من المقاومة، لكن بعد لحظات، أخذ الرجل يلين، فدار بينه وبين الشرطي الذي كان جاثيا بركبته على رقبته هذا الحوار الذي وثقته الكاميرات:

فلويد: حسنا، حسنا. أريد الانبطاح على الأرض. أريد الانبطاح على الأرض. 

الشرطي لين: ستدخل إلى سيارة الشرطة. 

فلويد: أريد الانبطاح على الأرض. سأنبطح. سأنبطح. (بعدها انبطح على الأرض). 

فلويد: لقد انبطحت. لقد انبطحت. أنا أعاني رهاب الأماكن المغلقة. مَعدتي تؤلمني. رقبتي تؤلمني. كل ما في يؤلمني. أحتاج ماء أو ما شابه. أرجوك. أرجوك. لا أستطيع التنفس أيها الضابط. 

الشرطي دريك شوفان: إذن، توقف عن الحديث والصياح. 

فلويد: ستقتلني يا رجل.

الشرطي ديريك شوفان: توقف عن الحديث والصراخ إذن، الحديث يستهلك الكثير من الأكسجين.

فلويد: بربك يا رجل، لا أستطيع التنفس، لا أستطيع التنفس. ستقتلاني. سيقتلاني. لا أستطيع التنفس. لا أستطيع التنفس.    

في إحدى النقاط، وضحت الوثيقة بأن الشرطي لين طلب قلب فلويد على جانبه، فرد عليه الشرطي شوفان، بأنه سيبقى مكانه. وهذا ما يحاول محامي الشرطي لين تبيانه في القضية، وهو أن لين كان يتبع أوامر شرطي أعلى منه رتبة.   

وعلى أية حال، كانت تلك آخر كلمات جورج فلويد وهو على بعد مليمتر أو أدنى من مفارقة هذه الحياة الظالمِ أهلها، كي تعانق روحه المُتْعَبة من ظلم ’’الأسياد‘‘ رحاب الحرية الأبدية في فضاء عدالة بارئها .. وربما نظر إلينا من عَلٍ وهو على وشك أن يغيب غيبته المطلقة، فذكرنا بما قاله أحد شعراء هذا الجيل:

’’قد أنسوكم كل التاريخ …وكل القيم العُلويــــــة …أسفي أن تخرج أجيال …لا تفهم معنى الحريــة …لا تملك سيفاً أو قلمـاً …لا تحملُ فِكرا وهُوية …‘‘

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X