عمرو بن هشام، المعروف بأبي جهل، هو صاحب فكرة، أو بالأحرى، صاحب مؤامرة ’’توزيع دم الضحية على القبائل‘‘؛ وقد اهتدى إليها عندما فكّرت قريش في قتل الرسول ﷺ، فأوعز إليهم بإسناد إنجاز الجريمة إلى مجموعة من الفتيان المنتمين لعدة قبائل ليضربوا الرسول ضربة رجل واحد فيضيع دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم تحديد المسؤول عن الجريمة وأخذ ثأرهم.    

والظاهر أن المستبدين والفاسدين من بعد أبي جهل استحسنوا فكرته فجعلوا منها سياسة للحفاظ على استقرار سلطانهم والنأي بأنفسهم عن تحَمّل مسؤولية الأحداث التي تثير غضب الرعيّة، وذلك بواسطة إضفاء اللبس على كل مشهد يهدد مصالحهم، واختفاء المسؤول الحقيقي وراء ضبابيته، إلى أن تنالَ الحيرة من الناس ويصعبَ عليهم اتخاذ موقف موحد تجاه السلطة الحاكمة.      

يحدث في مغرب القرن الواحد والعشرين أن تتكرر المآسي التي كان المفترض أن يكون زمنها قد ولىّ وأضحت من الماضي؛ فجاءت فاجعة طنجة الأخيرة التي أودت بحياة تسعة وعشرين شخصا بعد أن غمرتهم مياه الفيضانات عندما كانوا يعملون بمصنع للنسيج لا يتوفر على الشروط الدنيا للوقاية من حوادث الشغل ولا على رخصة قانونية لممارسة نشاطه، جاءت هذه الفاجعة لتضع من جديد علامات استفهام حول أداء المرافق العمومية والأجهزة المنتخبة والمؤسسات الرقابية، وبصفة عامة، حول المنظومة الإدارية والاقتصادية للبلاد وكيفيات اشتغالها.

وأمام كل حدث من هذا النوع، يتكرر السؤال الأبرز: ’’من المسؤول؟‘‘؛ إذ إن الجميع يريد معرفة الجهة التي يجب مساءلتها عما جرى، لكن لا أحد يحصل على إجابة محدودة وشافية نظرا لكثرة المتدخلين في ملف قضية ’’مصنع طنجة‘‘: هل نسائل أعوان السلطة؟ أم قائد المنطقة؟ الباشا؟ الوالي؟ المجلس البلدي وأجهزته المختصة؟ الأجهزة الرقابية لمؤسسات التعمير؟ أجهزة التفتيش التابعة لوزارة الشغل؟ مؤسسات وزارة التجهيز؟ أم علينا أن نسائل التركيبة السياسية والإدارية والاقتصادية للدولة برمتها؟    

ونظرا لكثرة المتدخلين، تصعب مهمة تحديد المسؤولين المعنيين بتواطئهم أو بتقصيرهم في مهامهم الرقابية، وبالتالي تكثر فرص الإفلات من العقاب، لأن كل طرف يلقي بالكرة في ملعب الآخر، فيؤدي ذلك كله إلى طيّ التحقيقات أو إهمالها، مثلما حدث مع العديد من القضايا المشابهة.

ولعلّ ما يزيد قضية ملف مصنع طنجة تعقيدا، ما تدّعيه بعض الأطراف من أن بناية المصنع كانت موجودة منذ خمس عشرة سنة وتناوبت على استغلالها شركتان، وأن الشركة الثانية بدأت في استغلال المصنع منذ ثلاث سنوات، وأنها تصرح بوضعيتها الضريبية لإدارة الضرائب وبعدد من عُمّالها لإدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إلا أنها لا تمتلك رخصة الاستغلال التي تسلمها إدارة الجماعة.    

وإذا كان الإطار المؤسساتي لا يساعد على تحديد المسؤولين نظرا لتعدد المؤسسات المتدخلة، فإن الإطار القانوني لا يستجيب هو الآخر للغرض .. فجزءٌ كبير من المسؤولية في هذه القضية يتحملها من يتولى صلاحيات الضبط الإداري أو الشرطة الإدارية؛ وبالرجوع إلى القانون التنظيمي رقم 113.11 المتعلق بالجماعات، نجد أن المُشرّع المغربي لم يُبيّن بشكل واضح الحدود الفاصلة في مجال الشرطة الإدارية بين صلاحيات رئيس مجلس الجماعة وصلاحيات عامل العمالة أو الإقليم أو من ينوب عنه، بالرغم من أن الجميع يعلم أن السلطة المحلية هي من تمتلك مفاتح الشرطة الإدارية على أرض الواقع .. لذلك لا عجب أن نسمع خلال هذه الأيام كيف تلجأ بعض الأشخاص العامة إلى توظيف القانون للإعلان عن براءتها من دم الضحايا الذين قضوا في مصنع طنجة. وهذه الفاجعة لو حدثت في إقليم أجنبي كإقليم برشلونة ـ مثلا ـ لتَحمَّل رئيس البلدية هناك المسؤولية كاملة، ذلك أن الاختصاصات والصلاحيات في النظام الأتونومي الإسباني هي معروضة بوضوح ولا تترك للمسؤول العمومي المختص ثغرات للدفع بعدم مسؤوليته.    

وفي مثل الأحداث التي عرفتها مدينة طنجة، عادة ما تتسارع بعض الأطراف إلى تحميل الحلقة الأضعف مسؤولية ما حدث، كأن تتوجه أصابع الاتهام إلى المسؤولين الإداريين الصغار، أو إلى تقديم عنصر آخر ككبش فداء، وذلك مثلما جرى في قضية مصنع طنجة عندما انصب الاهتمام الإعلامي وبعض الإعلانات الرسمية على تحميل المسؤولية لصاحب المعمل، وللقطاع غير المهيكل بصفة عامة.    

والحقيقة، أنه على من يتعاطى مع مثل هذه القضايا، أن يميز ضمنها بين ثلاثة عناصر أساسية: عنصر السبب، وعنصر المسؤولية، ثم عنصر النتيجة. ومن ثمة، فإن الذين يركزون على صاحب المعمل والاقتصاد غير المهيكل إنما يركزن على النتيجة التي أفرزتها الظاهرة وليس على أسبابها والمسؤولين عن تلك الأسباب.    فقضية مصنع طنجة هي إذن، نتاج مجموعة من السياسات العمومية الخاطئة ونتاج تراكمات لعقود من الفساد؛ ومن ثمة، وجب التعامل معها على هذا الأساس، وليس من باب تصفية الحسابات الحزبية والشخصية أو من باب البحث عن الحلول السطحية.     

وواضحٌ أن الفساد في المغرب قد استفحل أمره وأضحى من المعيقات الأساسية لكل إصلاح. وهذا الكلام عبّر عنه والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، خلال اجتماع اللجنة المالية والاقتصادية في البرلمان في شهر نونبر/تشرين الثاني من سنة 2020؛ حيث أكد عند مداخلته على نتائج الاستقصاء الذي أنجزه البنك الدولي سنة 2019 حول معيقات تنمية المقاولات بالمغرب، وقال إن البنك الدولي قد اعتبر أن الفساد (الرشوة) يأتي في المرتبة الأولى بنسبة 15,5 في المائة من بين مجموع المعيقات الأخرى، كالنسب الضريبية وإجراءاتها، والقطاع غير المهيكل، والأراضي، والولوج إلى التمويل …إلخ.    

وتجليات الفساد، كما هو معروف، تأخذ شكلها في كل المجالات، من خلال ممارسات متكررة تصير مع مرور الوقت عُرفا يكاد يتقبله الجميع، أو ثقافة لا ينبذها الناس، وإنما يمارسونها عند الحاجة، والبعض يستحسنها ولا يجد حرجا في اللجوء إليها عندما يتعلق الأمر بمصالحه الشخصية أو العائلية … و تتجلى مظاهر الفساد في عدة ممارسات، كتسهيل التملص الضريبي، وغض البصر عن أنشطة غير قانونية مقابل رشاوى، وتطبيق إعفاءات جبائية في غير موضعها، وتمرير صفقات عمومية دون احترام المعايير المعمول بها، و تسليم رخص غير قانونية مقابل مصالح شخصية، وتشجيع اقتصاد الريع والقطاع غير المهيكل، ووقوع الموظفين في حالات التنافي مع مهامهم العمومية عندما يمارسون أعمالا تجارية مسموح بها فقط للخواص…. إلى غير ذلك من الممارسات التي يصعب حصرها.

لذلك، فإن معركة الإصلاح هي معركة ضد الفساد في المقام الأول، ومن هذا الأساس يجب بناء كل التدخلات السياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية بصفة عامة. ونتمنى أن يكون التحقيق بشأن فاجعة مصنع طنجة الذي فتحته النيابة العامة المختصة لتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات تحقيقا موضوعيا، علّه يتحول هذه المرة إلى مدخل جدي نحو محاربة الفساد.

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X