لم تعد المحفظة الجلدية التقليدية الحامل الوحيد للنقود التي يخرجها صاحبها لتسديد ما عليه، فقد أضحى الناس يمتلكون نوعا آخر من المحافظ هي ’’المحافظ الرقمية‘‘

تطورت وسائل الأداء تدريجيا: فمن المقايضة، إلى بعض السلع التي تَوافق الناس عليها كأدوات للمبادلة مثل الحبوب والملح والشاي، إلى النقود المعدنية، ثم إلى الصكوك وسندات الإيداع البنكية، ثم أخيرا إلى النقود الائتمانية المكونة من النقود الورقية والنقود المعدنية الصغيرة المساعدة، فضلا عن وسائل أخرى للأداء كبطائق الائتمان وبطائق المصرف الآلي. 

ومن البيّن أن وسائل الائتمان المتداولة حاليا لا تستمدّ صفة الإبراء من قيمتها الذاتية مثلما كان عليه الوضع مع النقود المعدنية في الماضي، إنما تستمدُّ هذه الصفة من قوة القانون، وأن ما تتمتع به من ميزة الائتمان إنما هي خاصية مكتسبة من ثقة الناس في الجهة التي تصدر تلك النقود.

وتبعا لِسُنن تطور الفكر المالي، ظهر بعض الاقتصاديين في العقود الأخيرة من القرن العشرين ينادون بفك الارتباط بالنقود والاعتماد كليا على البطائق الإلكترونية. غير أن ثقة الناس بوسائل الأداء هذه لم تكن قد اكتملت، ولا يزال اكتمالها في وقتنا الحاضر غير منظور. وبالتالي، لا يمكن للحكومات والمؤسسات المالية فرض إجراء مالي لم ينل ثقة المتعاملين بصفة كاملة.

ولعل وباء كورونا الذي ضرب العالم سنة 2020 قد عجّل في تمرير بعض المشاريع التي استعصى تمريرها في الأوقات العادية، وأن نسبة التعامل بالنقود الورقية والمعدنية تراجعت بشكل كبير منذ ذلك الحين، بينما ارتفع حجم المعاملات غير النقدية بأكثر من 80% بين سنتي 2020 و 2025.

وحسب تقرير أعدّته شركة ’’جونيبر للأبحاث‘‘، فإن مبلغ العمليات المالية غير النقدية انتقل من تريليوني دولار سنة 2020 إلى ستة تريليونات دولار سنة 2024 ثم إلى 7.7 تريليونات دولار سنة 2025، ومن المفترض أن ترتفع هذه النسبة بشكل كبير خلال السنوات القادمة.

ولا يخفى أن الاعتماد على الدفع الرقمي بدلا من الأوراق النقدية في تزايد مستمر، وأن مشهد الزبائن والمتعاملين التجاريين وهم يقرّبون هواتفهم أو بطاقاتهم البنكية لأجهزة الدفع في المتاجر أو يمررون رمز ’’كيوآر‘‘ على القارئ الإلكتروني، أصبح مشهدا عاديا ومن مقومات الحياة المالية والتجارية في الوقت الحاضر، وجليٌّ أن المشهد يسير إلى التجدد، وقد يمضي في التجدد إلى غير انتهاء.

لم تعد المحفظة الجلدية التقليدية الحامل الوحيد للنقود التي يخرجها صاحبها لتسديد ما عليه، فقد أضحى الناس يمتلكون نوعا آخر من المحافظ هي ’’المحافظ الرقمية‘‘، وهي نوع من أنواع التطبيقات المالية الإلكترونية، تحتويها الهواتف والأجهزة الذكية، وتودع فيها بطائق الائتمان وكلمات المرور  بشكل مشفر وتذاكر السفر  ونقاط المكافأت والعملات المشفرة وحتى بطائق الهوية ورخص القيادة في بعض الدول.

وتعمل البطائق الرقمية وفق نظام إلكتروني معقد باستخدام تقنية الـ ’’إن إف سي‘‘[1] وتُربط بالحسابات البنكية التي يعينها أصحابها لشحنها وتستعمل  لإنجاز المعاملات المالية في الأنترنت أو في المحلات التجارية باختيار البطاقة وتمرير الهاتف الذي يحمل تلك البطاقة على قارئ أجهزة الدفع لتسديد أثمان المشتريات دون إدخال أي بيانات.

وقد تراجع استعمال النقود في بعض الدول المتقدمة إلى أقل من 20%، ومنها: فنلندا والصين وكوريا الجنوبية والدنمارك والمملكة المتحدة وهولندا وكندا وأستراليا وإسلندا.

وتعتبر السويد النموذج الأبرز في استعمال الوسائل الرقمية للتسديد وإنجاز العمليات المالية، حيث لا تتجاوز فيها المدفوعات النقدية 1% من مجموع التعاملات.

ولا شك في أن الالتحاق بركب هذه الدول يتطلب بنية رقمية قوية، وأنظمة مصرفية متطورة، واقتصادا متينا منفتحا، وثقافة تكنولوجية عالية لدى المواطنين، وقدرة شرائية تتيح للمتعاملين مسايرة المستجدات في مجال الأجهزة الذكيــة. هذا، بالإضافة إلى سياسة حكومية تحفيزية وتخفيضٍ مناسب في مصاريف الدفع الإلكتروني.

بالنسبة للدول العربية، تأتي دول الخليج في المراتب الأولى نظرا لما تحتويه من إمكانات. وفي المغرب لا تزال الوسائل النقدية تشكل 74% من مجموع المعاملات.  

إن الانتقال من المادي الملموس إلى المجرد لن يتم دون مقاومة واعتراض من فئات كثيرة اعتادت إنجاز المداخيل والنفقات بوسائل ملموسة، فهنا لا بد أن يكون للعامل النفسي الاجتماعي أثره في تحديد وتيرة الانتقال.

ولا يزال الناس في العديد من المجتمعات يفضلون التعامل بالنقود حفاظا على سرية معاملاتهم المالية وتوجسا من القرصنة الإلكترونية أو المراقبة الضريبية. كما أن مفهوم الادخار لدى البعض لا يزال محصورا في امتلاك النقود كمنقول يمنح مالكَه الإحساس بالأمان والتحكم في حياته المالية التي يعتبرها أمرا شخصيا لا يسمح بتفويضها كليا إلى المؤسسات البنكية.

ثم لا يجب إغفال العوامل الطبيعية ولا الأعطاب التي تصاب بها البنيات التكنولوجية في تأثيرها على ثقة الناس في وسائل الدفع الإلكتروني.

فمن نتائج انقطاع التيار الكهربائي الذي أصاب إسبانيا في أبريل 2025 أن الثقة في أنظمة الدفع الإلكتروني تراجعت بشكل كبير. فبعدما حدث ما حدث، وجد الكثير من الإسبان أنفسهم لا يتوفرون على ما يمكّنهم من شراء حاجياتهم الأساسية، فقد توقفت أنظمة الدفع الإلكتروني، ولم تعد البطائق البنكية ولا المحافظ الإلكترونية تجدي نفعا، واستعصى الاتصال بشبكة الأنترنت، ولم يستطع أصحاب الحسابات البنكية سحب النقود من أجهزة الصراف الآلي، بينما لم يتأثر أولئك الذين تعودوا على التعامل بالنقود.

وقصارى القول، إن التصور الداعي إلى مجتمع خال من النقود هو تصور يلزمه مزيد من الوقت، وربما لا تزال التكنولوجيا هشة أمام الدواعي النفسية البشرية والعوامل الطبيعية والمادية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1]ـ يعتمد نظام الدفع الرقمي على تقنية  ’’إن إف سي‘‘ وهي تقنية الاتصال قريب المدى (NFC) (Near Field Comunication)، وتقنية التعرف بواسطة ترددات الراديو، ورموز الــ ’’كيو آر‘‘.

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

 

مقالات ذات صلة:

 

ما مفهوم النقــود؟

ما مفهوم النظام المالي ’’سويفت‘‘؟

 

 

X