
انتقلت تركيا من مبدأ ’’صفر مشاكل مع دول الجوار‘‘ إلى جبهات إقليمية مشتعلة تنذر باحتمال وقوع اصطدامات عنيفة قد لا تظل منحصرة على المستوى الإقليمي، بل من الإمكان أن تتعداه إلى أبعد من ذلك.
تخوض تركيا صراعا مع الأكراد، وتخوض صراعا مع النظام السوري بسبب توغلها في الأراضي السورية والوقوف إلى جانب المعارضة في إدلب، وأمست اليوم تخوض صراعا مفتوحا مع العراق بعد مقتل ضابطين عراقيين، يوم الثلاثاء الماضي، بواسطة طائرة مسيرة تركية، كانا يتواجدان بمنطقة شمال أربيل على الحدود بين العراق وتركيا وإيران. وعلى شرق المتوسط، يتصاعد التوتر بين تركيا واليونان والدول المتشاطئة بسبب الخلاف المتزايد حول كيفية تقاسم ثروات شرق البحر المتوسط الذي يعتبر أهم أحواض الغاز الطبيعي في العالم، والذي أضحى اليوم بسبب الصراع، منطقة مليئة بالسفن الحربية من الجانب التركي واليوناني، بل ومن جانب فرنسا كذلك، وربما تنخرط دول أوربية أخرى في هذا المشهد إذا ما استمر المشهد على حاله.
وصراعات تركيا لا تقتصر على جيرانها الحدوديين، بل تصل إلى الإمارات العربية والسعودية، وإلى مصر، وإلى خصوم حكومة الوفاق في ليبيا، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب صفقة صواريخ إس 400 التي عقدتها أنقرة مع موسكو، وإلى فرنسا.
وقبل سنوات، نشبت أزمة حادة بين تركيا وروسيا على إثر إسقاط الطيران التركي لطائرة روسية ومقتل طيارها. وبالرغم من أن هذا الملف تم احتواؤه باللقاء التصالحي بين أردوغان وبوتين، إلا أن العلاقات بين الطرفين ما تزال مرتبكة و لا يمكن التسليم بصفائها نظرا لتباعد موقف كل طرف فيما يخص بعض القضايا، وفي مقدمتها، تلك المتعلقة بسوريا وليبيا.
في ظل الصراعات التي انخرطت فيها تركيا منذ سنوات، سوف تشهد الساحة التركية أحداثا خطيرة، من أهمها، محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 2016، واستهداف الليرة التركية، ومقتل عدد مهم من عناصر الجيش التركي في إدلب على يد القوات السورية والروسية، وصولا اليوم إلى الصراع المفتوح مع اليونان في عرض شرق المتوسط، والذي قد ينزلق إلى ما هو أسوأ إذا لم يتم احتواؤه بالطرق الدبلوماسية المناسبة.
أمام الوضع الذي تتواجد فيه تركيا حاليا، لا سيما على مستوى علاقاتها الإقليمية المتوترة، هناك من يرى، أن دفاع تركيا عن موقعها في شرق المتوسط هو أمر طبيعي ومقبول لأنه يندرج ضمن الدفاع عن حقوقها السيادية البحرية، لكنهم ينتقدون تصرفات تركيا في الملف السوري، ويرون أنها أخطأت في حساباتها، وانخرطت في صراع غير محسوم ومجهول النتائج ومدفوع بأجندات خارجية تسبب في كثير من الآلام للسوريين، وأن تفريطها في اتفاقية أضنة مع سوريا، المنعقدة سنة 1998، قد ساهم في زيادة خطر حزب العمال الكردستاني على المصالح التركية، وأن إضعاف الدولة السورية كان ضد المصالح الاستراتيجية التركية، خصوصا فيما يتعلق بقضية الأكراد وقضية الحدود البحرية.
في المقابل، هناك تحليلٌ آخر، يذهب إلى إدراج جميع تحركات تركيا في المنطقة ضمن مخطط موسع تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة طويلة، في محاولتها لإعادة صياغة خريطة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وتقزيم دور الاتحاد الأوروبي في هذه المناطق، وتأسيس شرق أوسط جديد، وفق تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، كان قد شُرع في توطيده منذ حرب لبنان سنة 2006، ويقولون بأن هذا المخطط ما يزال قائما على قدم وساق، وتنخرط فيه مجموعة من الدول العربية، وسوف ينتهي بالتطبيع الكامل مع إسرائيل، وتصفية القضية الفلسطينية ومحور المقاومة، وأن كل ما جرى ويجري من أحداث في المنطقة، من ضمنها ثوراتُ الربيع العربي وتَدُخُّلُ القوى الدولية والإقليمية، إنما هو جزء لا يتجزأ عنما خُطط له.
وهناك تحليلٌ ثالث، يسند الأمور إلى منطق المصالح، ويرى أن جميع التحركات في المنطقة تخضع لهذا المنطق، فالقوى الإقليمية والدولية الكبرى، كتركيا وإيران والولايات المتحدة وروسيا والصين، تتحرك كلها على إيقاع مصالحها في المنطقة التي تتقاطع في بعض الملفات وتتصادم في أخرى، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد بإمكانها السيطرة على الوضع في الشرق الأوسط كما كانت تفعل سابقا، والسبب في ذلك يعود بالأساس إلى تراجع مكانتها الاقتصادية وتغيير أولوياتها وأساليب تدخلاتها وصعود منافسين أقوياء لها لا يمكن تجاوز مصالحهم أو تجاهلها، وظهور معادلات جديدة تفرض نفسها في الميدان، أبرزها معادلة محور ’’المقاومة أو الممانعة‘‘. أما الدول العربية في المنطقة فهي عناصر مستقطبَة، ومعظمها عبارة عن أدوات في يد الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن تركيا في هذا السياق، لا تعدو كونها لاعبا يجري وراء مصالحه، لكنها أقل قوة وتأثيرا من القوى الدولية الكبرى، وبالخصوص الولايات المتحدة وروسيا، وهي واعية بذلك، ومن ثمة فإنها تحاول إيجاد توازنات للحفاظ على مصالحها، بالتصعيد أحيانا، وتبني الحوار أحيانا أخرى، أو باتخاذ موقف ونقيضه في مدة وجيزة من الزمن عندما تقتضيه اللعبة، ومن أمثلة ذلك، ما صرح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم الجمعة في كلمة متلفزة في مدينة إسطنبول بثتها قناة TRT عربي، من أن ثمة لقاءات بين مسؤولين أتراك ومصريين تهدف إلى إزالة سوء التفاهم الحاصل بين الطرفين. فالناظر بعين المحلل إلى هذا التصريح، يرى فيه تناقضا كبيرا بين موقف أنقرة من مصر في السابق وموقفها الآن الداعي إلى نوع من التفاهم، لكنه لا يلبث أن يدرك بأن هذا الأمر يشكل جزءا من السياسة التركية الخارجية القائمة على البراعة في التوفيق بين المتناقضات كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
وفي جميع الأحوال، ليس بالإمكان التكهن بما قد يحدث في المستقبل، فالأمور في الشرق الأوسط لا أحد يسيطر عليها سيطرة كاملة، وثروات الغاز في شرق المتوسط هي موضع نزاع حقيقي بين الدول المتشاطئة وحلفائها، وبالتالي فإن المشهد يظل منفتحا على العديد من الاحتمالات والتحالفات الظرفية.
ـــــــــــــــــ
(الفهرس)