كلا .. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب .. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة

للكاتب والمفكر الراحل عباس محمود العقاد من كتاب ’’أنــا‘‘

 

   أول ما يخطر على البال حين يُوجَّه هذا السؤال إلى أحد مشتغل بالكتابة سيقول: إنني أهوى القراءة لأنني أهوى الكتابة!

   ولكن الواقع أن الذي يقرأ ليكتب وكفى هو “موصل رسائل” ليس إلا … أو هو كاتب “بالتبعية” وليس كاتبا بالأصالة. فلو لم يسبقه كتّابٌ آخرون لما كان كاتباً على الإطلاق، ولو لم يكن أحد قبله قد قال شيئا لما كان عنده شيء يقوله للقراء.

   وأنا أعلم فيما أعهده من تجاربي أنني قد أقرأ كتباً كثيرة لا أقصد الكتابة في موضوعاتها على الإطلاق، وأذكر من ذلك أن أديبا زارني، فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات، فقال مستغربا: وما لك أنت والحشرات؟! … إنك تكتب في الأدب وما إليه، فأية علاقة للحشرات بالشعر والنقد والاجتماع؟!

   ولو شئت لأطلت في جوابه … ولكنني أردت أن أقتضب الكلام بفكاهة تبدو كأنها جواب وليس فيها جواب …

   فقلت: نسيت أنني أكتب أيضا في السياسة!

   قال: نعم والحق معك! … فما يستغني عن العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب عن السياسة والسياسيين في هذه الأيام!

   والحقيقة –كما قلت مرارا- أن الأحياء الدنيا هي “مسودات” الخلق التي تتراءى فيها نيات الخالق كما تتراءى في النسخة المنقحة، وقد تظهر من “المسودة” أكثر مما تظهر بعد التنقيح. فإذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك الإحساس، فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير، ولو في غير هذا الموضوع.

   كذلك لا أحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارئ التاريخ في البيت المشهور:

    ومن وعى التاريـخَ في صدره      أضاف أعمارا إلى أعماره

   فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشيء المهم إلا على اعتبار واحد، وهو أن يكون العمر المضاف مقدارًا من الحياة لا مقدارًا من السنين، أو مقدارًا من الحس والفكر والخيال، لا مقدارًا من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها؛ فإن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار، وطائفة من الأرقام.

   كلا … لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب …

   وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.

   والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب …

   فكرتك أنت فكرة واحدة …

   شعورك أنت شعور واحد …

   خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك …

   ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعورًا آخر، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك… فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين …

   كلا … وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد.

   والمثل على ذلك، محسوس في عالم الحس والمشاهدة، ومحسوس في عالم العطف والشعور.

   ففي عالم المشاهدة يجلس المرء بين مرآتين فلا يرى إنسانا واحدا أو إنسانين اثنيْن، ولكنه يرى عشرات متلاحقين في نظره إلى غاية ما يبلغه النظر في كل اتجاه.

   وفي عالم العطف والشعور نبحث عن أقوى عاطفة تحتويها نفس الإنسان فإذا هي عاطفة الحب المتبادل بين قلبين … لماذا؟ لأنهما لا يحسان بالشيء الواحد كما يحس به سائر الناس …

   لا يحسان به شيئاً ولا شيئين، وإنما يحسان به أضعافا مضاعفة، لا تزال تتجاوب وتنمو مع التجاوب إلى غاية ما تتسع له نفوس الأحياء.

   هكذا يصنع التقاء مرآتين، وهكذا يصنع التقاء قلبين … فكيف بالتقاء العشرات من المرائي النفسية في نطاق واحد؟

   وكيف بالتقاء العشرات من الضمائر والأفكار؟

   إن الفكرة الواحدة جدول منفصل.

   أما الأفكار المتلاقية فهي المحيط الذي تتجمع فيه الجداول جميعاً، والفرق بينها وبين الفكرة المنفصلة كالفرق بين الأفق الواسع والتيار الجارف، وبين الشط الضيق والموج المحصور.

   وقد تختلف الموضوعات ظاهرًا أو على حسب العناوين المصطلح عليها، ولكنك إذا رددتها إلى هذا الأصل كان أبعد الموضوعات كأقرب الموضوعات من وراء العناوين.

   أين غرائز الحشرات مثلا من فلسفة الأديان؟

   وأين فلسفة الأديان من قصيدة غزل وقصيدة هجاء؟

   وأين هذه القصيدة أو تلك من تاريخ نهضة أو ثورة؟

   وأين ترجمة فرد من تاريخ أمة؟

   ظاهر الأمر أنها موضوعات تفترق فيما بينها افتراق الشرق من الغرب والشمال من الجنوب، وحقيقة الأمر أنها كلها مادة حياة، وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود إليه.

   غرائز الحشرات بحث في أوائل الحياة.

   وفلسفة الأديان بحث في الحياة الخالدة الأبدية.

   وقصيدة الغزل أو قصيدة الهجاء قبسان من حياة إنسان في حالي الحب والنقمة.

   ونهضة الأمم أو ثورتها هما جَيَشانُ الحياة في نفوس الملايين، وسيرة الفرد العظيم معرض لحياة إنسان ممتاز بين سائر الناس.

   وكلها أمواج تتلاقى في بحر واحد، وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير.

   ولم أكن أعرف حين هويت القراءة أنني أبحث عن هذا كله، أو أن هذه الهواية تصدر من هذه الرغبة.

   ولكنني هويتها ونظرت في موضوعات ما أقرأ فلم أجد بينها صلة غير هذه الصلة الجامعة، وهي التي تتقارب بها القراءة عن فراشة، والقراءة عن المعري وشكسبير.

   لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة.

   ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني … ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين، ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين.

 

منشورات ذات صلة:

 

ـ فلسفة الحيـــاة عند العقـاد

ـ  وجــع القـــراءة

 

 

 

X