ما هو الحدث الذي سيجعل المغرب الأقصى مجالا ترابيا متميزا في محيطه ومستقلا بشؤونه؟

   بعد سنة 711م أضحت بلاد المغرب من الزاوية القانونية ولاية تابعة لدولة الخلافة على رأسها وال مقره القيروان (تونس).

   لكن هذه التبعية لم تكن تعني إقصاء العنصر المحلي، لأن العرب سيسمحون للبربر بالمشاركة في الحكم وسيعترفون بسلطة قياداتهم المحلية. وهذا الاعتراف إنما هو ثمرة للمقاومة التي أبداها البربر في بادئ الأمر .. ومن ثمة يمكن القول، بأن بلاد المغرب دخلت مرحلة جديدة فيما يتعلق بتدبير شؤونها، يجوز تسميتها وفق المصطلحات  المستعملة اليوم بـ “مرحلة اللامركزية الإدارية”، تجري في إطار دولة  مترامية الأطراف، تلونت هياكلها الإدارية باللون  البيزنطي الموروث، ويمتد نفوذها الترابي من فارس شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، فالأندلس شمالا.

   ثم إننا أمام نظام حكم تنتقل فيه السلطة بالوراثة وتُفرَض السيادة بالعصبية والغلبة بعد أن كان الأمر يعتمد على الشورى وتغليب الرابطة الدينية في عهد الخلافة الراشدة .. وبالتالي، لك أن تتساءل، كيف يمكن للسلطة الأموية  الحديثة العهد بشؤون الحكم  أن تظل متماسكة في ظل هذه المعطيات ؟

   كانت سياسة الخلفاء الأمويين تجاه القيروان والمغرب الأوسط والمغرب الأقصى ترتكز على تعيين الولاة لتسيير شؤون البلاد وقيادة الفتوحات ونشر الإسلام .. وقد أبلى الأولون منهم بلاء حسنا واستطاعوا نيل رضى السكان المحليين، ومنهم موسى بن نصير، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي مهاجر الذي عينه الخليفة عمر بن عبد العزيز سنة 718م.

     وعندما عيّن الخليفةُ هشامُ بن عبد الملك سنة 734م عبيدَ الله بن الحبحاب واليا على بلاد المغرب، قام هذا الأخير ففوض السلطة إلى نواب عنه وعيّن على منطقة طنجة عمر بن عبيد الله المرادي الذي أراد أن يخمس البربر رغم إسلامهم، فثاروا عليه  ثم قتلوه، وكان ذلك سنة 740م .. فانطلقت شرارة المواجهات وانتهت بمعركة سبو التي انهزم فيها جيش الخليفة الأموي على يد البربر والعرب الخوارج في نفس السنة .. فكان الحدث سببا حاسما في خروج شمال المغرب الأقصى نهائيا عن سلطة الخلافة .

    نعرض هذه الأحداث بإيجاز، ليس من باب السرد التاريخي ـ لأن المؤرخين أفاضوا في المسألة كثيـراـ وإنما لنضع سطرا بارزا تحت الحدث الذي سيجعل من المغرب الأقصى مجالا ترابيا متميزا عن المغرب الأوسط  وعن القيروان.

   كانت معركة سبو، إذن، السبب الرئيسي في خروج المغرب الأقصى عن السلطة السياسية الأموية، وبالتالي، كان من الطبيعي أن يلجأ سكان المنطقة إلى التدبير الذاتي لشؤونهم.

   ومع تطور الأحداث، أضحى المجال الترابي للمغرب الأقصى تتقاسمه عدة تنظيمات يمكن اعتبارها بمثابة دويلات أو إمارات أو كما سماها الأستاذ العروي “مدن مستقلة”/”مدن شورى”، مؤكدا أن وضعها كان شبيها بما عرفته اليونان القديمة أو إيطاليا الوسيطية، مضيفا: أنه في ظل نظام المدن المستقلة، كانت المناطق الفاصلة بين المدن هي كذلك شبه مستقلة تحكمها الأعراف وتربطها بالمدن علاقات حسن الجوار، وأن ما يرجح هذا القول ما كتبه اليعقوبي في كتابه “البلدان”، و هو المؤرخ الرحالة الذي تجول في المغربين الأدنى والأوسط في تاريخ يقع بعد سنة 260هـ / 873م.

   ولقـد توزعـت تلك التنظيمـات على الشكـل الآتي:  إمـارة نـكور فـي منطقـة الريف  ابتداء مـن سنـة 710م، وإمارة البرغواطة على الساحل المغربي جنوب نهر سبو سنـة 742م، وإمارة بنـي مدرار في سجلماسة سنة 757م، وإمارة “بني عصام” في سبتة ، ثم إمارة الأدارسة ابتداء من سنة 788م، وربما وُجدت سلطات أخرى في تلك الفترة ، لم تعمر أو لم تصلنا أخبارها.

   إن التنظيمات السياسية المشار إليها، وُجدت في تلك الفترة وأشار إليها المؤرخون، لكن معلوماتنا عن أحوالها وأنظمتها تبقى ضعيفة، ويستقيها جلُّ الباحثين مما كتبه المؤرخون والرحالة العرب المنتمون للمشرق العربي أو للأندلس، لا سيما أولئك الذين تقاربت أعمالهم مع الفترة التي نتحدث عنها، كاليعقوبي (المتوفى سنة 897م) صاحب كتاب “البلدان”، و ابن حوقل (المتوفى سنة 977م) صاحب كتاب “صورة الأرض”، و أبي عبيد البكري (المتوفى سنة 1094م) صاحب “المغرب في ذكر بلاد  إفريقية والمغرب” الذي يعتبر جزءا من كتاب “المسالك و الممالك‘‘.

     ويتقدم التنظيم السياسي للأدارسة على سائر التنظيمات المعاصرة له في المغرب الأقصى من حيث عدد المصادر ونوعها التي تخبرنا عن فترة حكمهم: كشهادات المؤرخين المشارقة والأندلسيين والمعطيات المادية من بنايات و آثار و نقود…  إلخ.

 

(هذا المقال مقتبس من كتاب: ’’السياق التاريخي للتنظيم الترابي وتكوين الشخصية المغربية‘‘، للمؤلف سعيد منصفي التمسماني)

X