سعيد منصفي التمسماني(مقال محين)  

  لست ممن يصطفون ضمن مذهبٍ بعينه، و لست مُريد شيخٍ أو تابعا لزعيم، فأنا متواجدٌ حيث توجد أمارات الحق، كانت في ساحات اليمين أو اليسار، في ساحات الإيدولوجيا أو الدين، في ساحات الشرق أو الغرب .. لا يهمني مصدرها بقدر ما يهمني جوهرها .. والمبدأ الراسخ عندي في التعامل مع مثل هذه الأمور ينطلق من أن ’’رأيي خطأٌ يحتمل الصواب، ورأيك صوابٌ يحتمل الخطأ‘‘، والهدف المقصود من المبدأ، ترسيخُ ثقافة الاختلاف المؤدية إلى الفهم وتلاقح الأفكار، و نَبْذ الخلاف المؤدي إلى التعصب الفكري والإفلاس المعرفي. ولا أتردد في تطبيق هذا المبدأ على أي مجال من مجالات الحياة، و على مجال السياسة خاصة، وهو مجالٌ ذو سعة، يقتضي أن يتعايش في كنفه المتنافسون والمتخاصمون، وأن يحافظوا على تعايشهم بما يحفظ مصالح الناس.

*   *   *    

  تتزامن كلماتي هذه مع ذكرى رحيل محمّد مرسي في السابع عشر من يونيو من سنة 2019، والمقصود عندي، هو رحيل رجل، رحيل تجربة يريد الكثيرون أن يدخلوها طيّ النسيان، نهاية حلم الحرية على يد الظلم والاستبداد.

  ومنذ رحيل مرسي إلى اليوم، تغيرت أشياء، وتبدّلت مواقف وذمم، وأطلت حقائق برؤوسها، وسقط القناع عن كثيرين ممن كانوا يدَّعون صداقته، أفرادا كانوا أم منظمات أم دول؛ ’’وما خفي كان أعظم‘‘.    

  قد يختلف المرء مع الراحل محمد مرسي في أشياء، ويلتقي معه في أشياء أخرى، لكن ما لايجوز فِعله هو أن يسيء المرء إلى ذكراه مثلما أساء البعض له وهو على قيد الحياة .. والحقيقة أنك تجد في الرجل من الخصال ما يجعلك تستحيي أن تسيء له حتى لو كان ألذّ الخصام، فنحن أمام مهندس عالمٍ في تخصصه، درّس في الجامعات العربية والغربية وعمل خلال فترة من عمره في الشركة الأمريكية ناسا للفضاء، وكان متفقها في علوم الدين وحافظا لكتاب الله، وخلوقا متواضعا، ومناضلا سياسيا اعتقل عدة مرات، ومحبا لوطنه وأمته، وحاملا لمشروع اقتصادي طموح كان ينوي تطبيقه؛ وكانت يده نظيفة لم يثبت تورطه في فساد مالي أو بيع للذِّمم .. لكن الظاهر أن كل الحسنات التي احتواها رصيده الإنساني لم تشفع له أمام بعض الصّغار لكي يتطاولوا عليه عندما كان رئيسا وعندما كان مسجونا، ويتطاولون عليه اليوم وهو في دار البقاء بإيعاز  من الحاكم المستبد.    

  لا أبعد إذا قلت إن أعظم فترة مرت في تاريخ مصر الحديث من حيث الحريات والديمقراطية هي الفترة الوجيزة التي كان فيها محمد مرسي رئيسا بعد وصوله إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع في أول سابقة انتخابية حقيقية شهدتها مصر، وهي فترة ـ مع الأسف ـ لم تتجاوز السنة، تحررت فيها الأقلام والألسن والمنابر، ولم يسجن فيها صاحب رأي بسب رأيه أو صاحب حزب أو مذهب بسبب انتمائه، فكانت تجربة فريدة من نوعها.    

  اتُّهِم مرسي بصفة خاصة، و جماعة الإخوان بصفة عامة، بالسعي إلى بيع سيناء لتوطين الفلسطينيين، وقيلت عنهم أشياء خُيِّل لسامعيها أنها حقيقة مطلقة من كثرة ما طرأ عليها من تزوير، غير أن من ادّعوا البهتان صمتوا صمتا مريبا عندما بيعت صنافير وتيران، وعندما تم الانخراط في جنح الظلام في ’’صفقة القرن‘‘، وعندما استبدّ الحاكم بقراره في الأموال والموارد وحسبها  ضمن أصوله، فصمت الجميع؛ ومن أشار من بعيد إلى الموضوع كان مآله السجن، ومن رام الحفاظ على استقلالية رأيه اضطر إلى الرحيل والضرب في أرض الله الواسعة بحثا عن ملاذ يحافظ فيه على حريته.

*   *   *    

  مشكلتنا في هذا الوطن الكبير، أننا لا نقدّر من اختلفنا معهم، مهما كانت مؤهلاتهم وعطاءاتهم، بل إن لدينا استعدادا دائمًا  للتحالف مع الظالم من أجل إقصاء ’’المنافس‘‘، حتى وإن كان ذلك على حساب حريتنا جميعا، المهم عندنا هو الظّفرُ بتلك الانتعاشة المؤقتة التي نتلذّذ بها ونحن نرى منافسنا يُذل ويُداس .. إنه سلوكٌ غريبٌ نابعٌ من تراكمات ثقافية وسياسية، علينا أن ننتبه له و لأنفسنا ومصيرنا؛ والراحل محمد مرسي هو  في آخر المطاف ضحية من بين الكثير من الضحايا لهذا السلوك.    

  نعم، لقد سقط محمد مرسي ضحية سلوكنا، قبل أن يقع ضحيةً للاستبداد  والإهمال في السجن، ونحسبه في كلا الحالتين: شهيدا، غادر الدنيا متمسكا بموقفه ولم يُبدّل تبديلا. وأقَلُّ ما يمكن أن يسديه المرء من خير في ذكراه، هو كلمة طيبة في حقه، وموقف شجاع في قضيته، و أن يستحضر أولئك الذين يتبعون هواهم ويميلون مع الخائضين، قوله تعالى : ﴿ولاتقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾.

*   *   * 

  إن  موقفنا لا ينبع من اصطفاف حزبي أو مذهبي أو إيديولوجي، إنما هو اصطفاف مع ما نراه من قضايا عادلة، اصطفافٌ فطري يدفعنا إلى أن نكون في خندق الشعوب والمستضعفين، مع آمالهم وتطلعاتهم إلى الحرية والديمقراطية والعدالة والرخاء والعيش الكريم في الأوطان.

X