
لم يُخْلف حزب فوكس الإسباني، المحسوب على اليمين المتطرف، ما سبق وأن أعلنه زعيمه سانتياغو أبسكال في يوليو الماضي في الكونغرس من أنه سوف يقدم ملتمسا للرقابة بهدف إسقاط الحكومة الإسبانية الحالية وتحميلها المسؤولية السياسية عنما آلت إليه الأوضاع.
وبالفعل، فقد سجّل حزب فوكس، في 29 شتنبر، طلبه في مكتب مجلس النواب، مُدَّعياً أنّ ذلك يرجع إلى ما وصفه بــ ’’التدبير الإجرامي‘‘ الذي مارسته الحكومة الإسبانية في مواجهة جائحة كورونا، وبالخطر الذي يتربص الإطار الدستوري للدولة، مُوَضّحا أن هدفه يكمن في إسقاط الحكومة والدعوة لإجراء انتخابات مُبكرة في حال نجاح المبادرة. وتبعا لذلك، عقد مجلس النواب الإسباني يومي الأربعاء 21 أكتوبر والخميس 22 أكتوبر على التوالي، جلستين للتداول في موضوع ملتمس الرقابة.
وينص الفصل 113 من الدستور الإسباني، على أن يكون ملتمس الرقابة مُقترَحا من طرف عشر أعضاء مجلس النواب، وأن يُشارَ فيه إلى مرشح لرئاسة الحكومة، وأن لا تتم المصادقة عليه إلا بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس.
والحقيقة، أن حزب فوكس كان يعي أن مقترحه آيل لا محالة إلى الفشل لاعتراض أغلبية المكونات السياسية داخل المجلس، لكنه كان يحاول أن يقدم نفسه للناخب الإسباني بأنه ملتزمٌ بمسؤولياته السياسية والرقابية، كما أنه كان يريد إحراج جناح اليمين المحافظ (الحزب الشعبي وحزب سيودادانوس) الذي لا يشاركه نفس توجهاته.
وهذا، تقريبا، ما أوضحه أحد ممثلي حزب فوكس، إغناسيو غاريكا بالقول، بأن تحرك حزبه آتٍ من باب ’’الولاء للشعب الإسباني‘‘، مضيفا: ’’ “نريد أن يتم تذكّرُّنا كأولئك الذين فعلوا كل ما في وسعهم لإخراج أسوأ حكومة في أسوأ وقت‘‘.
ولم تأت نتيجة التصويت مخالفة للتوقعات، إذ من ممجموع 350 نائبا، صوت 52 منهم، كلهم من حزب فوكس، لصالح المقترح، بينما صوت ضده 298 نائبا.
وبهذه النتيجة، ظهر حزب فوكس بمظهر من يغرد خارج السرب، وربما ساهم، من حيث لا يدري، بإحداث توافق كبير بين الأحزاب الإسبانية، على اختلاف ألوانها السياسية والإيديولوجية، بالتصويت ضد ملتمس الرقابة، والوقوف صفا واحدا ضد مبادرة حزب فوكس.
وإذا كان قادة فوكس قد توقعوا النتيجة، فإن الذي لم يتوقعوه هو موقف ’’الحزب الشعبي‘‘، حيث راهنوا أن يمتنع عن التصويت فقط وأن لا يصوت ضد المقترح.
لكن الذي حدث كان مخالفا للتوقعات وأبعد منها، حيث إن ’’الحزب الشعبي‘‘ بزعامة ’’بابلو كاسادو‘‘ كان من أشد المنتقدين لحزب فوكس ساعة التداول في مسألة ملتمس الرقابة، وأراد أن ينأى بنفسه عن النهج الذي يمارسه منافسه.
وهذا الأمر يعني فيما يعنيه، أنه يريد أن يقدم نفسه كزعيم لليمين الإسباني بلا منازع، وأن يتميز عن حزب فوكس، حتى لا يُنظرَ إليه كعنصر منفعل يسير على إيقاع ما يرسمه سانتياغو أبسكال.
وقد بدا هذا المعنى واضحا في كلام بابلو كاسادو خلال الجلسة التداولية، حيث وجّه كلامه لفوكس قائلا: ’’ لقد تحملنا إهاناتكم مدة عامين … لا يتعلق الأمر بالشجاعة أو الجرأة، إنما لا نريد أن نكون مثلكم’’.
وقد بدا التأثر واضحا في تعقيب زعيم حزب فوكس على كلام كاسادو، وقال إنه لم يكن ينتظر انتقادا على هذه الدرجة من الحدة، مضيفا، أن الأمر سوف يؤثر على العلاقات الشخصية بين الزعيمين لكن لن يكون له تأثير على الميدان السياسي.
ويجب التذكير، أن سانتياغو أبسكال بدأ مشواره السياسي في صفوف الحزب الشعبي قبل أن يتشدد في مواقفه ويلجأ إلى تأسيس حزب جديد.
ويرى بعض المحللين الإسبان، أن ما حدث يوم الخميس في مجلس النواب، من شأنه أن يؤثر على بعض التحالفات السياسية بين الحزبين، ذلك أن الحزب الشعبي يترأس حكومات ثلاث مناطق حكم ذاتي بواسطة تحالفه مع حزب فوكس، وبالتالي، فإن بقاءه على رأس حكومة منطقة مدريد والأندلس ومورسيا مرهون بطبيعة علاقته مع حليفه.
فهل يرغب الحزب الشعبي في تغيير استراتيجيته وتحالفاته للحد من صعود نجم حزب فوكس الذي أضحى يختطف أنصاره يوما بعد يوم؟
لقد جاء التصويت ضد مقترح حزب فوكس، يوم الخميس، بمثابة تجديد للعقد الديمقراطي الذي انطلق مع الاستفتاء على دستور 1978 والذي تحول منذ ذلك الحين إلى إطار تتعايش فيه كل المكونات السياسية الإسبانية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها اليسارية أو اليمينية أو القومية.
والظاهر من التصويت، أن هذه المكونات غير مستعدة للتفريط في هذا العقد الجامع الذي شكل مرحلة فاصلة من تاريخ إسبانيا، ناقلا إياها من مرحلة الصراعات والدكتاتورية إلى مرحلة التعايش الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.
وربما شكل تصويت يوم الخميس فرصة لحزب فوكس ليحس بعزلته وليراجع مواقفه ومشروعه السياسي عَلّه يستنتج أن الأغلبية في إسبانيا ليست مع نسف مقومات التعايش الديمقراطي التي تم تحقيقها بعد تضحيات ضخمة وجروح عميقة.
(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)