تركيا اليوم بأي قراءة؟

بقلم: د.مصطفى أمزير
عرف سعر صرف الليرة التركية في مقابل الدولار خلال الأشهر الماضية تراجعات كبيرة وصلت إلى حد وصفها بالانهيار، موازاة مع انكماش عام للأداء الاقتصادي للبلد، وشح كبير في السيولة النقدية من العملات المرجعية .. وضعية تطرح على المراقب أكثر من سؤال يخص هذه الأزمة: أهي أزمة عابرة أم أزمة بنيوية مرتبطة بالخيارات الاقتصادية التي تبناها مهندسو الحزب الحاكم؟ خاصة وأنها مكررة تطفو على السطح بين الفينة والأخرى. ثم لماذا يسارع الغرب وخدامه الوظيفيون كل مرة إلى إلقاء طوق النجاة للاقتصاد التركي كلما شعروا بقرب انهياره، كما حصل سابقا مع قطر ويحصل الآن مع الإمارات برضا هذا الغرب وتشجيعه؟
جذور الأزمة
لفهم إشكال الليرة التركية يجب، أولا، فهم أطروحة حزب العدالة والتنمية الاقتصادية.
ينبني تصور الحزب على اقتناع تنموي يرى أن الاستثمار المباشر في الأوراش العينية الكبرى هو الذي بمستطاعه أن يدفع الاقتصاد التركي نحو الازدهار، من خلال تقوية الإنتاج ومن ثم مراكمة فائض القيمة لاستثمارها لاحقا في مشاريع جديدة، تُراكم رؤوس أموال أعظم ومشاريع أضخم، وهكذا دواليك.
ولما كان تنفيذ هذا البرنامج يحتاج إلى رؤوس أموال عظيمة لم تكن متوفرة في حينها عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة سنة 2002م، بسبب ثقل حجم الدين الخارجي الذي كان يستهلك الجزء الأعظم من مدخرات تركيا من العملة الصعبة، فقد اقترح اقتصاديو الحزب لتجاوز هذه المعضلة نقل عهدة الدين الخارجي إلى القطاع الخاص الذي أصبح مسؤولا عن دين تركيا أمام الجهات المانحة بضمانة البنك المركزي وخزينة الدولة. وهكذا بعدما كان دين الدولة يصل أواخر2013 حوالي 284 مليار دولار، أصبح سنة 2014 صفرا! وهو ما وفر للدولة سيولة ضخمة استثمرتها في المشاريع العينية الكبرى.
غير أن ثقل المديونية أصبح هائلا على كاهل القطاع الخاص حيث وصل في غضون هذه السنة إلى أكثرمن 453 مليار دولار! أضحى معه عاجزا بسبب تراجع مدخراته من العملة الصعبة عن سداد ما في ذمته. ومع إصرار البنك المركزي على خفض سعر الفائدة لتلافي التضخم، فضل المستثمرون سحب ودائعهم من البنوك التركية بحثا غن مكان آخر يوفر فرصا أفضل للاستثمار، من خلال النزوع إلى استبدال الليرة بالدولار متسببا في تضخم مالي غير مسبوق.
هذا هو واقع المشكلة الاقتصادية في تركيا، وإذا أضيف إلى ذلك ارتفاع سعر الطاقة، وتراجع مداخيل السياحة مع الإغلاق الذي شهده العالم بسبب تفشي وباء كورنا، ثم الهشاشة التنافسية لتركيا على الأسواق العالمية، قدرنا حجم معاناة اقتصادها اليوم.
هل من مصلحة الغرب انهيار الاقتصاد التركي؟
تروج بين متعاطفي التجربة ’’الأردوغانية‘‘ في الحكم، فرضية يحللون في ضوئها كل أزمات تركيا الداخلية والخارجية، وهي فرضية العداء الأمريكي للتوجه السياسي والأيديولوجي لأردوغان.
واضحٌ أن مثل هذا التحليل يتعمد القفز على جوهر الأزمة الاقتصادية لتركيا كما أشرنا إليها أعلاه، وهي أزمة اختيارات بالأساس. فيما واقع الحال لا يثبت أي صراع بين الدولتين، بل هما، على العكس من ذلك، في توافق سياسي كشف عنه الانسجام الحاصل في تعاطيهما مع الأزمات الدولية؛ فحيثما تدخلت تركيا (في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والقوقاز) فثمة مصلحة للنفوذ الأمريكي. وحتى حينما لجأت أمريكا في عهد ترامب إلى فَرْض رسوم جمركية على وارداتها من الصلب التركي، ضمن اختيارات اقتصادية شاملة تجاه أوربا والصين، لم تكن هذه الإجراءات من الخطر الذي من شأنه أن يوقع اقتصاد تركيا في أزمة؛ فقيمة تجارة الصلب التركي، الأرخص عالميا، لا تمثل شيئا كبيرا (مليار دولار) من حجم صادرات تركيا لأمريكا البالغة أكثر 20 مليار دولار.
ففرضية تأثر الاقتصاد التركي سلبا ’’بالإجراءات العدائية‘‘ الأمريكية فرضية غير مبرهن عليها من الواقع، كما أن هذه الفرضية لا تستطيع تفسير أزمة الاقتصاد التركي الدورية. فيما غض بصر الإدارة الأمريكية عن المساعدات التي تتلقاها تركيا كل مرة من دويلات الخليج كما حصل مع قطر سابقا (15 مليار دولار)، والإمارات الآن بما يفوق هذا المبلغ، إلا دليل على تهافت هذه الفرضية، فلو كانت أمريكا تسعى فعلا إلى تقويض اقتصاد تركيا، لمنعت هذه الإمارات الصغيرة السائرة في فلكها من تمييع سياستها!
تعد تركيا، على عكس ما يظن البعض، شريكا استراتيجيا حيويا للغرب، فمن مصلحة الغرب أن تكون تركيا قوية، لكنها غير خطيرة في الآن نفسه…! قوية لصد الامتداد الشيوعي إلى المياه الدافئة كما أرادها الأوربيون أثناء الحرب الباردة ضمن حلف الناتو. وقوية اقتصاديا لمنع تدفق الشرق نحو أوربا كما هي الآن. فكلما كانت تركيا مزدهرة قوية، استطاعت أن تخفف عن الغرب أعباءه الثقافية والاقتصادية شريطة كبح نزوعها الرمزي نحو الشرق. فداخل ذاكرة أوربا رعب تاريخي من الانكشاري الذي أسقط “بيزنطة” وحاصر “فيينا”.. لذلك أصرت الدول الأوربية منذ مؤتمر “لوزان” سنة 1922م على تجريد الأتراك من ذاكرتهم الحضارية المخيفة، من خلال اشتراط إلغاء الخلافة وإعلان علمانية الدولة للاعتراف باستقلالهم. وهو ما التزم به الجيش التركي على امتداد تاريخه الحديث باعتباره، كما ينص الدستور التركي، حارسا أبديا للأيديولوجية الكمالية اللائكية. ومع هذا الالتزام كانت أوربا “تتفهم” دائما انقلاباته العسكرية رغم دمويتها “لتشذيب” “النتوءات الشرقية” الجارية في الحراك الثقافي والسياسي للمجتمع التركي.
ويبدو أن مشروع حزب العدالة والتنمية في هذا السياق، قد طمأن الغرب، فهي حركة علمانية برضى المؤسسة العسكرية متصالحة مع محيطها الاستراتيجي (إسرائيل) المعادي للشرق، وهي في نفس الآن مشروع قومي واقتصادي جاد بنزاهته الأخلاقية، من شأنه أن يضمن نهوض تركيا الاقتصادي بالشكل الذي يحمي أوروبا من الهجرة الشرقية. وبالتالي فحزب العدالة والتنمية بالنسبة للغرب، نموذج لطالما بحثت عنه في تركيا أمام فساد كل النماذج التي تداولت الحكم في هذا البلد سالفا. وعلى هذا الاعتباربادرت الإمارات، بإيعاز من المالكين الحقيقيين لثرواتنا، إلى ضخ الملايير في الخزينة التركية لمساعدتها على الخروج من محنتها المالية والحيلولة دون انهيارها بالشكل الذي يعكس ما صرحت به المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل حينما قالت: “إن ألمانيا تريد أن ترى تركيا تزدهر اقتصاديا، لأن ازدهارها يصب في مصلحة برلين”، مشددة على أنه “لا أحد لديه مصلحة بزعزعة الاستقرار الاقتصادي لتركيا” خاصة وأن مجمل ديونها من البنوك الأوربية.
أزمة .. بأي حل؟
المتمعن في أزمات الاقتصاد التركي يجدها أزمات دورية، فهي لا تكاد تتعافى حتى تسقط مرة أخرى. وهي مسألة منتظرة ضمن النظام الرأسمالي الذي اختارته تركيا مسلكا لاقتصادها المأزوم بنيويا بطبعه؛ فمنطق الاقتصاد الرأسمالي قائم على المراهنة على زيادة الثروة وهو ما يقتضي الزيادة في إنتاج السلع والمواد الاستهلاكية، وهي الزيادة التي لا يستطيع السوق تصريفها إلا عبر التصدير. وأمام اشتداد المنافسة الدولية على الأسواق وموارد الطاقة لتقليص كلفة الإنتاج، كانت الهيمنة للدول الاستعمارية الكبرى. فيما وجدت الدول الناشئة داخل اقتصاد السوق نفسها مضطرة لتقديم خدمات جيوسياسية وعسكرية للمهيمن لإشراكها في فتات السوق، وهو واقع تركيا تحديدا.
لذلك يبدو أمام تركيا خياران للخروج من أزمتها الدورية بشكل نهائي، الأول أن تغير الاتجاه الكلي لنمطها الاقتصادي بالرجوع إلى الطرح الهوياتي الذي يمثل نموذجا مغايرا للاقتصاد يزاوج بين البعد القيمي التعبدي الروحي من جهة، والبعد المادي في تنمية الثروة وتوزيعها والاستثمار فيها.
أما الخيار الثاني فهو العمل على توسيع وعاء السوق لتصريف منتجاتها داخل البلاد العربية الإسلامية على الأقل، من خلال تبني خطاب سياسي يقوم على المناداة بالسوق الإسلامي المشترك وبالعملة الموحدة المرتبطة بالذهب للتحرر من هيمنة الدولار. في أفق الوحدة السياسية الشاملة لبلاد المسلمين على المدى البعيد أو المتوسط، على شاكلة الاتحادات الاقتصادية الكبرى القائمة الآن أو التي يهيّأ لقيامها مستقبلا في آسيا وشمال أوربا على يد الصين من جهة وروسيا من جهة ثانية. ومن غير هذا المسار ستبقى تركيا دولة وظيفية تابعة للاقتصادات الاستعمارية الكبرى، لن يخرجها من أزمتها لا الدعم القطري أو الإماراتي، فكلها مسكنات مؤقتة يعود بعدها الألم ليفتك بالجسد مرة أخرى.