الفهرس

إذا كان في إسبانيا، منذ ظهور فيروس كورونا، من لم يتوقف نشاطه ولم تتأثر برامجه بالقيود المفروضة، ويكاد يشكل استثناء، فإنه بلا شك الكائن السياسي الإسباني، الذي لم يؤجل أجندته المتعلقة بالصراع مع الكائنات السياسية المتنافسة على المواقع والكراسي، أي على السلطة.  

لم تستطع نظرية ’’العدو المشترك‘‘ أن توحد الأطراف السياسية في إسبانيا حول قدر أدنى من التفاهم والعمل المشترك لمواجهة وباء كورونا والتركيز على طرح الحلول لاجتياز المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد .. فكل حزب يعمل على نسف رصيد الحزب المنافس، ويظل الصراع بين اليسار واليمين، بصفة عامة، صراعا إيديولوجيا حادا لا تتخلله هدنة، بل يستغل فيه كل طرف أدنى خطأ من الآخر للنيل منه؛ ولم تشفع الجائحة ولا الاقتصاد المتردي للدولة بتأجيل هذا الصراع مثلما أُجِّلت عدة قضايا أخرى.  

فالاختلاف الحاصل بين اليمين واليسار في إسبانيا بشكل عام، وبين الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة بشكل خاص، هو اختلاف مبدئي بالأساس، ثم هو اختلاف حول عدة قضايا، أولها معارضة حزب ’’بابلو كاسادو‘‘ زعيم الحزب الشعبي ومعارضة اليمين الإسباني بصفة عامة للتحالف الحكومي الذي يجمع كلا من الحزب الاشتراكي وحزب ’’بوديموس‘‘(يسار ذو خلفية شيوعية)، حيث إن تواجد هذا الحزب الأخير في تشكيلة الحكومة يثير استياء اليمين الإسباني بسبب عدد كبير من القضايا.   

إن ما يحدث في إسبانيا بين اليمين واليسار من اختلاف، و لاسيما في السنوات الأخيرة، قد لا توجد له أمثلة في أوروبا، ففي إسبانيا يتعدى الاختلاف بين القطبين السياسيين حدود البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ما هو أبعد، حيث نجده يطال الجوانب الفكرية والدينية والقومية والثقافية، ليتحول إلى نوع من الصراع الوجودي الذي لا توافق فيه حتى ولو تعلق الأمر بقضايا مهمة تهم المصلحة العامة للدولة.  

وإلى جانب الصراع المستمر بين اليمين واليسار، ثمة صراع من نوع آخر في إسبانيا يضاف إلى المشهد ليؤجج الساحة السياسية؛ وأصل هذا الصراع نابعٌ من مطالب الأحزاب القومية الانفصالية، ولا سيما الكطلانية، والتي تستفيد بشكل كبير من استمرار الصراع بين اليمين واليسار على مستوى المركز.  

في هذا المناخ، ستعرف إسبانيا، منذ بداية تفشي وباء كورونا في شهر مارس/آذار من السنة الماضية، ثلاثة انتخابات ’’أتونومية‘‘ (جهوية)، توزعت بين مناطق غاليسيا والباسك وكطالونيا؛ وتم تقديم ملتمَسين للرقابة استهدفا الحزب الشعبي الذي يقود الحكومة الأتونومية لمنطقة مورسيا وبلدية المدينة.  

وتعيش منطقة الحكم الذاتي في مدريد هي الأخرى خلال هذه الأيام، على وقع تعبئة سياسية واستعداد للانتخابات ’’الأتونومية‘‘ المبكرة التي ستُجرى في مايو/أيار الآتي للتنافس على 136 مقعدا للمجلس التشريعي للمنطقة.  

وانتخابات مدريد هي نتاج الصراع الحاد بين اليمين واليسار الذي لا يعرف هدنة أو تأجيلا، فثمة من ينتظر ملاءمة الأوضاع لصالحه للبناء عليها بصرف النظر إن كان الوضع العام الذي تمر به الدولة مناسبا أم لا، فالذي يهم ها هنا هو تسجيل النقاط لاحتلال المواقع.   

والمدخل إلى هذه الانتخابات جاء بعدما استشعرت، رئيسة الحكومة الأتونومية في مدريد، ’’إسابيل أيوسو‘‘ المنتمية إلى الحزب الشعبي، بأن التحالف الحكومي الذي تقوده أخذ يتصدع بفعل عزم أحد مكوناته الانشقاق وهو حزب ’’سيودادنوس‘‘، وبأن المعارضة التي يتزعمها الحزب الاشتراكي تنوي تقديم ملتمس للرقابة، فسارعت إلى حلّ المجلس التشريعي والدعوة إلى انتخابات مبكرة سدًّا للطريق أمام طموحات المعارضة.  

ويطغى على انتخابات مدريد جو من التنافس الحاد، لا سيما بعد تنازل زعيم حزب ’’بوديموس‘‘، ’’بابلو إغليسياس‘‘، عن منصبه كنائب لرئيس الحكومة الإسبانية، وعزمه التقدم في هذه الانتخابات لتمثيل حزبه. وهذا كله يزيد في تكثيف نشاط الأحزاب المتنافسة لإقناع الناخبين بمقترحاتهم، بالرغم من أن الحملة الدعائية لن تبدأ بشكل رسمي إلا عند 18 من شهر أبريل الجاري.  

وتشتد المنافسة في هذه الانتخابات بين ستة أحزاب أساسية: الحزب الشعبي (يمين محافظ)، والحزب الاشتراكي، وحزب ’’ماس مدريد‘‘ (من اليسار)،وحزب ’’سيودادانوس‘‘(يمين/وسط)، وحزب ’’فوكس‘‘ (اليمين المتطرف)، وحزب ’’بوديموس‘‘ (اليسار).  

ومن المحتمل إجراء دور ثان للانتخابات الأتونومية لمنطقة مدريد، في ظل التنافس الشديد بين كتلتي اليسار واليمين، إذ تبدو حظوظهما متساوية، حسب الاستطلاع الأخير لـ ’’مركز الأبحاث الاجتماعية (للإحصاء)، الذي رُصد فيه تقارب من حيث عدد المصوتين لكل كتلة.  

والمرور إلى دور ثان معناه استنزاف مزيد من الوقت والطاقات والموارد، في وقت تعيش فيه إسبانيا ضائقة اقتصادية حادة.

لذلك، ثمة شعور سائد بين المواطنين الإسبان تنقله العديد من المنابر الإعلامية المحلية ومنصات التواصل الاجتماعي بعدم الرضى عن اهتمامات السياسيين المنصبة بالدرجة الأولى على إحراز تقدم في مواقع السلطة في هذا الظرف الحرج الذي يستوجب تركيز المجهودات من أجل إيجاد الحلول المناسبة للأزمات والمشاكل الحقيقية التي يعانيها الموطنون.

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X