
عندما سمعنا أن نخبة من رجال القانون قد صحت نيتهم على إصدار مجلة أدبية يتعاونون على الكتابة فيها قال بعض الحاضرين: وما الذي يجمع الأدب والقانون في مجلة واحدة؟
أما أنا فلا أحسب أن المسافة بين الأدب والقانون من البعد والافتراق بحيث يبدو من ذلك السؤال. فالعلاقة بينهما وثيقة، والحاجة إلى التقريب بينهما في الإفهام شديدة. أليس الأدب هو ترجمان الأذواق في الأمة؟ أليست الأذواق هي القوانين النفسية التي تقيم الحدود بين الناس وتهديهم إلى الجائز والممنوع والحميد والذميم.
فكلاهما وازع، وكلاهما فاضل، وكلاهما مهذب مؤدب وإن اختلفت الطريقة في التهذيب والتأديب.
ولقد يعمل الذوق عمله في الأمة فيريح القانون من هذه الناحية، إذ ليس يبقى للشرائع كافة إلا عمل يسير في الجرائم التي يتكفل الذوق بإنكارها وازدراء فاعليها، ومن الناس من يخيفه العار ولا تخيفه العقوبة المجردة من العار. لأن العقوبة ألم وخسارة، أما العار فألم مصحوب بالمهانة والدنس وجزاء ينفذه كل إنسان ولا ينحصر تنفيذه في عدد محدود من الموظفين.
لقد كان الرجل قبل ثلاثين سنة أو نحوها يدخل السجن في جريمة شائنة ثم يخرج منه فيتلقاه أهله بالطبول والزمور ويقبل عليه المحتفلون والمهنئون، ولا يزال كلما عيب عليه السجن يقول في زهو ليس بالكاذب ولا بالمصطنع في معظم الأحيان: إنما السجن للرجال!
فما جدوى القانون هنا في عقوبة الإجرام؟ إنما يجدي في تلك العقوبة أن يتفق الذوق والتشريع، وأن يضاف إلى ألم العقوبة ألم المهانة بين الناس، وذلك هو الألم الناجع في الزجر والتوبة.
فالذي يخدم الأدب غير بعيد من خدمة القانون، وإذا فهم القانون حق فهمه وتنبه الناس إلى الصلة الوثيقة بينه وبين علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق ودراسة التاريخ فالبحث فيه على هذه الصفة بحث في الأدب من بعض الوجوه.
وعلى هذا المعتى لم يخطئ من قال: ’’أن الذي ينظم للأمة أغانيها ينظم لها قوانينها‘‘، ولم يخطئ من يعمل للتقريب بين روح الفن والأدب وروح القانون والتشريع، فإنه ليقرب إذن شيئين من الخطأ أن يظلا بعيدين.

(هذا المقال هو للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد وقد نشر في مجلة الفجر العدد 1 في أغسطس 1934)