الفهرس

أثارت جائحة كورونا موضوعا كان قد توارى عن الأنظار خلال الأعوام الأخيرة في إسبانيا، وهو موضوع: ’’الثقافة‘‘، ودورها في إحداث التنمية، ومدى أهميتها ساعة تدبير الأزمات. 

الاهتمام بهذا الموضوع، نشأ خلال هذه الأيام، في الأوساط اليسارية، على وجه الخصوص، ثم أخذ ينتشر تدريجيا لتتلقفه وسائل الإعلام الإسبانية، وليصبح في العديد من البرامج الإعلامية مادة دسمة يثور بشأنها نقاش عميق ينطلق من مختلف الزوايا ووجهات النظر والانتماءات السياسية والإيديولوجية. 

وخلال الأسبوع الأخير، تطرق إلى الموضوع في جريدة ’’الباييس‘‘ أحد الإسبان الذين قاموا بأدوار مهمة في مجال الثقافة، و يتعلق الأمر، بــ خوسي ماريا لاسايي، الذي شغل منصب كاتب الدولة للشؤون الثقافية في الفترة الممتدة من 2011 إلى 2016، ثم منصب كاتب الدولة للبرنامج الرقمي من 2016 إلى 2018. 

افتتح لاسايي مقاله بالإشارة إلى أن إسبانيا بإمكانها الاعتماد على الثقافة كأحد عوامل النمو بعد فترة الجائحة، وأن تجعل منها مُحَدِّدا لإعادة بناء صورتها كدولة. و هذه الإمكانية، كما يقول لاسايي، ’’كانت دائما موجودة، إلا أن الظروف التاريخية و ترسيخ نموذج للتنمية خاص بالحقبة الفرنكاوية (نسبة إلى فرانكو) في ستينيات القرن الماضي، كل هذه الأمور جعلت من الصعب أن يزيد ثقل الثقافة في الناتج الداخلي الخام الوطني‘‘. 

واعتبر المسؤول الإسباني السابق، أن أزمة سنة 2008، والجائحة الحالية، قد أضعفتا المقولة السائدة في عهد الديكتاتورية، والتي كانت تربط النمو حصريا بصناعة السيارات والبناء و السياحة. ورأى، أن هذه المقولة كانت تهمش  الثقافة بإعطائها دورا ثانويا يتوقف على السياحة والخدمات، وفق نظرة تبسيطية للتراث الرمزي الإسباني، ودعمٍ قطاعي للثقافة كان يتسم بالزبونية، وهو ما أخل بالديناميكية الإنتاجية للثقافة وساهم في ضعفها، حسب رأيه. 

كل الظروف منعت حتى الآن تقوية نمو الثقافة، بالرغم من أنها تعتبر أهم ما تمتلكه الدولة الإسبانية كرأسمال رمزي، حسب رأي الكاتب، وذلك بفضل المواهب الفريدة للمبدعين الإسبان و ما تمتلكه إسبانيا من تراث خاص ولغة عالمية تتشاركها مع أمريكا اللاتينية و تنافس بها اللغة الإنجليزية. 

ويُبدي لاسايي نوعا من الثقة في مواتاة الظروف الآنية لتغيير وضع الثقافة نحو الأفضل، على اعتبار أنه أصبح اليوم بالإمكان تغيير الظروف التي كانت متحكمة في مصير المجال الثقافي. والفضل، هنا، كما يرى، يعود للجائحة: ’’لأنها غيرت رؤيتنا إلى النمط الاقتصادي القديم. وهذا يضطرنا إلى أن نكشف عن عوامل بديلة للنمو، تكون مستديمة وقائمة على أساس تنافسي حقيقي. ويجب على جميع الملتزمين بثقافة بلادنا أن ندفع في اتجاه مساعدة الحكومة لإقناع المجتمع بأن الثقافة يجب أن تكون عماد إعادة البناء الاقتصادي‘‘، على حد قوله. ولتحقيق ذلك، يقترح لاسايي، العمل على استغلال الوضع المناسب الذي يقدمه النقاش الحالي حول الإطار المالي المتعدد السنوات 2021/ 2027 في إسبانيا ، و كذلك المخطط الاقتصادي الأوروبي، والسعي إلى أن يُدْرَج باب الثقافة في هذين الإطارين كعامل للنمو من بين عوامل أخرى كالاقتصاد الأخضر والرقمنة وربطها بهذين العاملين.  

ينطلق لاسايي في نظرته المعروضة، من أن الرأسمال اللامادي الذي تضيفه الثقافة يقوي قيمة الاستدامة، ومن أن فترة الوباء التي عاشتها إسبانيا تَبَين خلالها بأن الثقافة هي عنصر ضروري وحاجة أولية، حيث تأكد على نحو واضح أنه بواسطتها تم تجاوز حساسية الوضع النفسي الذي ترتب عن إجراءات الحجر الصحي، وأن عامل الثقافة كان له دوره الاقتصادي خلال هذه الفترة حيث نجح في توجيه جانب كبير من عمليات الاستهلاك نحو نوع من الاقتصاد المعرفي مُحَفِّزٍ للتجديد والإبداع والابتكار. 

إسبانيا، كما يراها لاسايي، تتوفر على بنية تكنولوجية مهمة تجعلها في مقدمة الدول في هذا المجال بعد كوريا الجنوبية واليابان وفنلندا،

ويضيف، أنه تَبين أن الاستثمار في هذه البنية طيلة الأعوام السابقة كان أمرا صائبا، لأن الدولة استفادت كثيرا منها خلال فترة الجائحة. بالإضافة إلى ذلك، فإن إسبانيا تتوفر على نسيج من المؤسسات الثقافية (سيرفانتيس،البرادو، المكتبة الوطنية،ماكبا…)، وهذا النسيج، حسب لاسايي، يحظى بقيمة عالمية يمكن اعتمادها كأساس لانتهاج سياسة ذات بعد ثقافي للقرن الواحد والعشرين.

لذلك، فإنه يوصي بضرورة إعادة التفكير في استثمار هذه المؤسسات على المستوى الرقمي بتنسيق بين الحكومة المركزية ومناطق الحكم الذاتي، وإعطاء المشروع الثقافي الإسباني بعدا دوليا يغطي كلا من أوربا وأمريكا اللاتينية.

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X