هل ستقبل كل من الصين وروسيا وإيران وجود ممر بمواصفات تعارض مصالحها والذي تعمل أمريكا عبر أذربيجان وتركيا وأرمينيا إلى جعله كواقع جيوسياسي؟
إن الممرات الملاحية والمضائق الطبيعية البحرية والممرات القارية الاستراتيجة كانت ولا تزال مجالات للصراع بين القوى الكبرى، لأن من يبسط نفوذه عليها يستطيع أن يعزز انتشاره على نقاط أمنية استراتيجية متقدمة ويحصل على مفاتيح التجارة العالميــة -التي يجري 80% من حجمها عبر البحار-… وبالجملة، فإنه يستطيع أن يؤثر تأثيرا بالغا في صناعة السياسات الدولية.
ممر زنغزور أو ’’ممر ترامب‘‘، هو واحد من الممرات القارية الإستراتيجية التي يشتعل الصراع حولها، ولا يمكن التنبّؤ بمآلاته نظرا للمتغيرات المتلاحقة.
في كتابه ’’رقعة الشطرنج الكبرى‘‘ تحدث المُنظر السياسي والمستشار السابق للبيت الأبيض للأمن القومي، زبيغينيو بريجنسكي، عن الأهمية الإستراتيجية التي تشكلها أذربيجان وإيران وكوريا الجنوبية وتركيا وأوكرانيا بالنسبة لواشنطن وبالخصوص أذربيجان التي وصفها بأنها ’’سدادة الزجاجة، التي تحتوي على ثروات حوض بحر قزوين وآسيا الوسطى‘‘.
وممر زنغزور هذا هو عبارة عن شريط يقع في جنوب أرمينيا على طول مسافة 43 كلم تقريبا، ويعتبر حلقة وصل بين أذربيجان وإقليمها نخجوان في الجهة الغربية.
ويكتسي الممر أهمية إستراتيجية كبيرة نظرا لموقعه. وسُلط عليه الضوء مؤخرا بكثافة، لاسيما بعد توقيع اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان تحت الرعاية الأمريكية في 25 أغسطس 2025، بعد نزاع طويل بين الطرفين استمر لعقود منذ انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 إلى أن دخل الصراع مرحلة تحوّلٍ جذري خلال سنتي 2020 و 2023 عندما شنت أذربيجان هجوما مفاجئا –بدعم من تركيا- على القوات الأرمينية استطاعت بواسطته إنهاء سيطرة الأرمن على إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
إن الانتصار الذي حققته أذربيجان كان من بين الأسباب التي دفعت أرمينيا تحت قيادة رئيس الوزراء نيكول باشينيان إلى تغيير اصطفافها والابتعاد تدريجيا عن روسيا حليفها الرئيسي بهدف التموضع تحت المظلة الأمريكية.
من ضمن ما يقتضيه الاتفاق بين أذربيجان وأرمينيا المؤطر من طرف واشنطن أن تشرف الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة ممر زنغزور أو ما أطلق عليه رمزيا بـ ’’ممر ترامب للسلام والازدهار الدولي‘‘ بواسطة شركة أمريكية خاصة وبالتنسيق مع أرمينيا وأن تتولى تشغيله وتطويره لمدة تسع وتسعين سنة. ومن المتوقع تأهيل الممر بمنظومة لوجستية متكاملة تتضمن طريقا سريعا وخط سكة حديد وكابلات ألياف بصرية وخطوط أنابيب للطاقة.
وإذا كان الممر سيربط أذربيجان بإقليم نخجوان التابع لها، فإنه سيربط كذلك تركيا مباشرة بدول ’’منظمة الدول التركية‘‘ من الأناضول إلى عمق آسيا، ما سيعزّز نفوذ أنقرة الاقتصادي والسياسي. دون أن ننسى أن تركيا هي عضو في ’’الناتو‘‘ وتعتبرها واشنطن نقطة ارتكاز محورية لبسط نفوذها في القوقاز.
وليس هذا فحسب، فمن المفترض أن يصير ’’ممر ترامب‘‘ حلقة أساسية من طريق تجاري كبير ينطلق من الصين إلى أوروبا وإنجلترا…
ولكن الأمر لا يقتصر على ما هو معلن .. فممر زنغزو هو عقدة اتصالات بالغة الحساسية، وأداة من أدوات السيطرة، حيث إن أي تغيير يطاله قد يؤدي إلى إعادة رسم خريطة النفوذ في منطقة القوقاز.
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية ومعها ’’الناتو‘‘ إلى جعل ممر زنغزور منصة للعبور إلى الضفة الشرقية لبحر قزوين حيث جمهوريات تركمنستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان بالإضافة إلى كازاخستان وحيث مخزونات الموارد الطبيعية والمواد النادرة والغاز والمعادن. وهي بهذا الاختراق تريد محاصرة الصين وروسيا وإيران وتأمين سلاسل الغاز والمعادن إلى الغرب وتعزيز وجود الناتو في منطقة ظلت مستعصية لوقت طويل.
بالنسبة لروسيا، تعتبر منطقة القوقاز عمقا إستراتيجيا ومجالا مهما لأمنها واقتصادها لاسيما فيما يتعلق بأنابيب الطاقة. وبالتالي، فإن إحداث ممر زنغزور وفق الصيغة الأمريكية سيعني السماح لواشنطن بمحاصرة موسكو وإضعاف دورها في مجموعة ’’الاتحاد الاقتصادي الأوراسي‘‘. وهذا ما ترتب له أمريكا بإلحاح عبر حليفيْها الأساسين: تركيا وأذربيجان، مستغلة انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية التي استنزفت قدراتها وساهمت بشكل كبير في فقدان موقعها في سوريا وتآكل نفوذها تجاه أذربيجان وأرمينيا.
وبالنسبة للصين، فالتغلغل الأمريكي في القوقاز، يعني فيما يعنيه، منافسة الصين في منطقة نفوذها الاقتصادي، ومحاولة نسف مشروع ’’الحزام والطريق‘‘ بممرات قارية بديلة تمتد من قلب آسيا فيما وراء بحر قزوين، مرورا بالبحر الأسود، وصولا إلى بحر البلطيق والمحيط الأطلسي.
وباختصار، فإن بسط واشنطن لأدواتها الاقتصادية والعسكرية في منطقة القوقاز يعني نقل الصراع إلى منطقة النفوذ التقليدي لكل من الصين وروسيا…
أما بالنسبة لإيران، فالأمر يعتبر أكثر خطورة…
يحاذي ممر زنغزور أو ’’ممر ترامب‘‘ الحدود الشمالية الغربية لإيران، وعليه، فإن خضوعه للنفوذ الأمريكي قد يستعمل كورقة ضغط قوية ضد الجمهورية الإسلامية. فالممر يفصل إيران عن أرمينيا، وأي توتر قد يحدث من شأنه أن يقطع عن إيران الطريق البري المؤدي إلى القوقاز وأوروبا وروسيا عبر أرمينيا دون المرور عبر أراضي أذربيجان أو تركيا. ومن جهة أخرى، فإن الوجود الأمريكي المباشر على الحدود الشمالية الغربية الإيرانية وضعٌ لا تقبله طهران وتعتبره مساسا بأمنها القومي لاسيما في ظل الحضور المتنامي لإسرائيل في أذربيجان…
فهل ستقبل كل من الصين وروسيا وإيران وجود ممر بمواصفات تعارض مصالحها والذي تعمل أمريكا عبر أذربيجان وتركيا وأرمينيا إلى جعله كواقع جيوسياسي أم ستتوصل الأطراف إلى صيغة توافقية ترضي الجميع وتجنّبهم عواقب الاصطدام…؟؟
(الفهرس)