سعيد منصفي التمسماني
في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول من كل عام، تحيي منطمة الأمم المتحدة ’’يوم اللغة العربية‘‘ تزامنا مع التاريخ الذي أصدرت فيه الجمعية العامة قرار إدراج لغة الضاد ضمن اللغات الرسمية التي تعتمدها المنظمة ولجانها الرئيسية لممارسة الأعمال.
وقد جاء القرار المذكور، الصادر منذ سبع وأربعين سنة، لينصف اللغة العربية على نحوٍ ما بعد ظُلْمٍ طالها من ذوي القربى وما يزال، كما أنه جاء ليعترف بتأثيرها الإيجابي ومساهمتها في بناء الحضارة الإنسانية وحفظ الفكر الإنساني.
وحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ’’تعد اللغة العربية ركنا من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشارا واستخداما في العالم، إذ يتكلمها يوميا ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة‘‘.
وعن تأثير العربية عَبْر التاريخ، قال ’’فليب دي طرازي‘‘ في كتابه ’’اللغة العربية في أوروبا‘‘: ’’كان بابوات رومة في طليعة ملوك أوروبا بانصرافهم منذ القرون الوسطى إلى تعزيز اللغة العربية وتدريسها ونشرها، وقد سبق أحدهم، [وهو] البابا سلوستر الثاني (1003/999م) أنه قصد الأندلس طلبا للعلم، عندما كان راهبا باسم جربرت (Gerbert)، وقد تخرَّج في مدارس إشبيلية وقرطبة، حيث أكَبَّ على تحصيل علوم العرب وأحكم فلسفتهم، وتعمّق فيها ثم شخص إلى رومة ففاق أقرانه بعلمه، ولمع بينهم بمزاياه السامية. وما كاد يجلس على كرسي بطرس برومة حتى أمر بإنشاء مدرستين عربيتين: الأولى في إيطاليا مقر خلافته، والثانية في ريمس من أعمال فرنسا وطنه، ومما يؤثَر عنه أنه أبدل الأرقام الرومانية المستعملة حتى ذلك العهد بالأرقام العربية، وأدخلها أوروبا‘‘.
وأورد ’’ليفي بروفنسال‘‘ في كتاب ’’الحضارة العربية في إسبانيا‘‘ عن القس ’’ألفارو القرطبي‘‘ قوله: ’’إن كل الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها، ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالا طائلة في جمع كتبها، ويصرحون في كل مكان بأن هذه الآداب حقيقة بالإعجاب، فإذا حدثتهم عن كتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم. يا للألم! لقد أُنسي النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد واحدا منهم بين الألف يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتابا سليما من الخطأ. فأما عن الكتابة في اللغة العربية فإنك واجد فيهم عددا عظيما يجيدونها في أسلوب منمق، بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم فنا وجمالا‘‘.
والحقيقة أن اللغة العربية، أو اللغة ’’الشاعرة‘‘ و ’’المعبرة‘‘ حسب وصف العقّاد، يأْلفها كل من اقترب منها، ويولَع بها كل من غاص في أعماقها، وذلك نظرا لما تحمله من إرث فكري وما تتميز به من خصائص النطق والتعبير التي تقرها دراسات العلوم الإنسانية بموضوعية لا تعبأ بالعصبيات القومية.
* * * *
ذلك كان وجها من أوجه تأثير اللغة العربية على أوروبا، فماذا عن المغرب الأقصى ؟
إن سكان بلاد المغرب بصفة عامة، وسكان المغرب الأقصى بصفة خاصة، أحبوا العربية كغيرهم ممن عرفوها أو احتكوا بأصحابها، وتعاملوا بها في شتى مجالات الحياة لما وجدوا فيها آنذاك من منافع. وليس صحيحا ما قيل ويقال بأن العربية تسللت إلى بلاد المغرب بالسيف، وبأن الناس أجبروا على استعمالها؛ فغاية الادعاء نَسْف الوعاء الحامل لفكر الشعوب التي تبنت العربية ومَحْو ذاكرتها التاريخية وإحداث نوع من التصادم بين مكوناتها البشرية.
إن الأُسر البربرية التي حكمت المغرب الأقصى، وامتد حكمها في أوقات إلى الأندلس والمغرب الأدنى، كان بإمكانها لو شاءت إقرار اللغة البربرية واستبعاد العربية؛ ولم يكن ثمة ما يرغمها على اتباع مذهب أو اعتماد لغة ضد إرادتها وإرادة شعوبها. فالقرارات التي اتخذتها السلطات السياسية في المجالين الديني واللغوي منذ عهد المرابطين مرورا بالموحدين إلى المرينيين، كانت قرارات سيادية، اتخذها الحاكمون بمشيئتهم، دون قيد أو شرط أو وصاية من لدن قوة دخيلة.
وعندما قرر المرابطون اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية ولغة للأدب والفكر، فلأن عقيدة المغاربة التي اختاروها وتبنوها بإرادتهم كانت تقتضيها .. فالمغاربة لم يقفوا عند اعتناق الدين الإسلامي بل تجاوزوا ذلك إلى التكلف بنشره وحراسته وتقويته. ثم إن اللغة العربية كانت لغة العلم والفكر في ذلك العصر، يتوافد الطلبة من شتى مناطق العالم على الحواضر العلمية الإسلامية كبغداد والقيروان وفاس وقرطبة لتحصيل العلوم التي كانت تقدم باللغة العربية .. هكذا نفهم قرار السلطة السياسية في ذلك الحين باعتماد اللغة العربية لغة رسمية، لأنها كانت الوعاء الحامل للمعرفة، ولأنها لم تُفرض، بل تم تبنيها اختيارا، وأحاطها المرابطون أبناء صنهاجة بالرعاية فمهّدوا بذلك لقيام حركة فكرية مهمة في المغرب الأقصى.
وفي عهد الموحدين، ومع زعيمهم محمد ابن تومرت صاحب ’’المرشدة‘‘ وكتاب ’’أعز ما يطلب‘‘ المكتوب باللغتين العربية والبربرية، علا شأن لغة الضاد وتطورت حركة التعريب لما امتزج الفكر المغربي الأندلسي وتلاقت فيه الأفكار، كأفكار ابن طفيل وابن رشد مع غيرهم من مبدعي ذلك العصر؛ ويجوز القول بأن صياغة التاريخ الرسمي للدولة المغربية قد بدأ من هنا، بإيعاز من السلطة السياسية، فنبغ في هذا الشأن كثير من الأسماء ذات الأصول البربرية، كالبيذق وابن القطان وابن صاحب الصلاة وغيرهم.
وعودة إلى مسألة التعريب، يجب القول، بأن الحركة كانت قد بدأت مع المرابطين ثم تطورت مع الموحدين ثم عمّ الأمر مع مجيء القبائل العربية من بني هلال، وارتفعت وتيرة التعريب في العصر المريني بالتفاعل الكبير مع الثقافة المشرقية ومناهجها التعليمية وبانتقال فئات كثيرة من المجتمع الأندلسي للاستقرار في المغرب الأقصى بعد سقوط أهم القواعد الأندلسية في يد المسيحيين. ومن ثمة، أضحت العربية إلى جانب البربرية لغة أهل المغرب الأقصى لأن الدين كان طالبا لها، والدين كما يقول ابن خلدون في المقدمة ـ إنما يُستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب. لكن اللغة العربية في المغرب الأقصى، وفق ملاحظات ابن خلدون نفسه، انفردت بخصائص محلية أبعدتها شيئا ما عن اللغة العربية المضرية الأصلية، إذ ’’غلبت العجمة فيها وصارت لغة أخرى ممتزجة‘‘.
وعلى أية حال، تحققت في المغرب المريني إنجازات وأعمال قيمة في المجال اللغوي والأدبي، كان أصحابها ينحدرون من أصول مختلفة، لكنهم انصهروا في إطار ثقافي جامع أنتج أعمالا تميزت بطابعها الخاص، فظهرت فنون ومواضيع أدبية منبثقة من صميم الحياة المغربية، كأدب المولديات وأدب الزهديات والملحون، واعتمد المغاربة طريقة خاصة بهم في تعليم علوم اللغة العربية، كاستعمال الشعر في نظم الكتب التعليمية واعتماد أسلوب المختصرات العلمية، واشتهروا في باب النحو حتى فاقوا أقرانهم في المشرق؛ وهذه ’’المقدمة الآجرومية في مبادئ اللغة العربية‘‘ خير دليل على ما نقول، ألفها محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسي المعروف بابن آجروم (1273م/1323م)، أوجز فيها كتاب ’’الجمل‘‘ للزجاجي فأضحت عمدة الطالبين للدراسات النحوية في المغرب والمشرق، ولم تزل كذلك حتى وقت قريب؛ واشتهر عدد كبير من الأعلام في هذا المجال، يصعب حصرهم في هذا المقال.
وإجمالا، ألّف المغاربة كتبا قيمة في العديد من العلوم، لا سيما في فترة أوج العهد المريني، والتزموا التأليف باللغة العربية الفصحى بإرادتهم وباختيارهم وبقيادة السلطة المرينية الزناتية البربرية؛ وباللغة العربية الفصحى كتبوا تاريخهم الرسمي على خطى الموحدين، وكان من أبرز مؤرخيهم علي بن أبي زرع الفاسي صاحب ’’روض القرطاس‘‘، فمتُن وضع العربية في المجتمع المغربي وصارت جزءا لا يتجزأ من هُويته. ولم يحدث أن تفاعل سكان بلاد المغرب مع لغة أخرى كتفاعلهم مع العربية الفصحى، إذ بها دوّنوا تاريخهم وسجلوا علومهم وكتبوا أفكارهم فساهموا بذلك في بناء الحضارة الإنسانية، وبالتالي أصبحت العربية لغتهم التي يحرصون عليها من الضياع ويشاركون أصحابها الأصليين ملكيتها لأنهم خدموها وزرعوا حقولها بشتى البذور أخرجت مع مرور الزمن ثمرات مختلف ألوانها تسر الناظرين والطالبين.
* * * *
ختاما، أُذكّر بما أورده الراحل عباس محمود العقاد في كتابه ’’اللغة الشاعرة‘‘، حيث قال:
’’ومن واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته على لغته أن يذكر أنه لا يطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك، ولكنه مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال، وإن بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كله … لأن السهم في هذه الرمية يسدد إلى القلب، ولا يقف عند الفم واللسان، وما ينطق به في كلام منظوم أو منثور‘‘.
إن الذين يطالبوننا اليوم باستعمال العامية بدلا من الفصحى، هم في حقيقة الأمر يسلكون اتجاها معاكسا لخطوات التاريخ، إنهم يطالبنونا بإحلال الفوضى مكان النظام، وباستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويحمّلون اللغة العربية، ظلما وبهتانا، أوزار فشل المنظومة التعليمية.
إن تدرج الإنسان في سلم الرقي لم يحدث إلا بعد جهد كبير وعملٍ جبار في تطوير وسائل التعبير، فبعد اللغة ثم الحرف الفينيقي تدفقت الحضارة الإنسانية لتسير كتيار جارف .. والحقيقة، أن العلاقة بين الفكر واللغة علاقة وثيقة، أو كما قال أحمد أمين: ’’اللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر، والفكر المنظم يعمل في تنظيم اللغة، وكذلك العكس‘‘، وبالتالي، فإن الأجدر، أن نبذل جهدا نحو الارتقاء باعتماد الفصحى لغتنا اليومية، ننظم فيها أفكارنا ونعمل على تطوريها ومَدّها بمزيد من التنظيم.