الفهرس
أحمد جينكتورك/ AA*
شكّل اكتشاف رفات أكثر من ألف طفل من السكان الأصليين في محيط مدارس داخلية في كندا صدمة للكثيرين، ولكن هذا الحدث ليس سوى فصل آخر من معاناتهم على أيدي الإمبريالية الغربية.
وغالبا ما كانت الإمبريالية تستخدم المسيحية والبعثات التبشيرية كأداة لتعزيز مصالحها المادية ونشر الإيديولوجيات في المناطق الواقعة خارج سيطرة الغرب.
العلاقة المتشابكة بين التعليم التبشيري المسيحي والإمبريالية الغربية متينة وقديمة، يعود تاريخها إلى منتصف القرن السادس عشر عندما أدركت الكنيسة الكاثوليكية فائدة التعليم للدفاع عن الدين وتعزيزه خلال عصر الإصلاح المضاد (الإصلاح الكاثوليكي).
وفي الوقت ذاته تقريبًا، كان تطلع الكنيسة الكاثوليكية إلى إعادة إحياء البعثات الأجنبية يتوافق تماماً مع الطموحات الإمبريالية لفرنسا وإسبانيا والبرتغال، وخاصة البعثات الفرنكفونية واليسوعية التي عملت في منطقة شاسعة ابتداء من الشرق الأدنى الذي كان حينها تحت حكم الإمبراطورية العثمانية ووصولاً إلى الأمريكيتين والشرق الأقصى.
كل ذلك جرى تحت الحماية الدبلوماسية المباشرة والدعم الاقتصادي من القوى الإمبريالية.
وفي المناطق الجغرافية التي سعوا إليها، كان التبشيريون يهدفون إلى تغييرات إيدلوجية، ليس فقط لدى غير المسيحيين، ولكن أيضاً لدى المسيحيين الشرقيين بما في ذلك الروم الأرثودوكس والآشوريين والأرمن والملكيتيين والنسطوريين.
كما بات التعليم الكاثوليكي أكثر وسائل التنصير فعالية وإقناعًا، والذي سار في معظم الوقت جنبًا إلى جنب مع عملية التغريب.
فعلى سبيل المثال، يعود التأثير الفرنسي في الشرق الأدنى إلى أواخر القرن السادس عشر، عندما بدأ المبشرون اليسوعيون في الترويج للغة والثقافة الفرنسية جنبًا إلى جنب مع الكاثوليكية في مدارسهم في حلب وبيروت والعديد من الأماكن الأخرى في العالم.
وبالتالي، فإن فرنسة البعثات الكاثوليكية، التي عملت كوكلاء للإمبريالية الفرنسية، فاقمت العلاقة بين السكان المحليين المسيحيين وغير المسيحيين، وتسببت بحدوث انقسامات داخلية وانفصال بين السكان الأصليين.
وبالمثل، سهّلت البعثات الفرنسية الكاثوليكية، منذ أوائل القرن السابع عشر، توسع الإمبريالية الإسبانية في الأمريكيتين من خلال إبراز مميزات رعاياها “كمسيحيين خاضعين للإمبراطورية الإسبانية”.
الحركة التبشيرية البروتستانتية الحديثة
قلدت الحركة التبشيرية البروتستانتية الحديثة، التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر، في بريطانيا والولايات المتحدة، الطريقة الكاثوليكية للتبشير من خلال التعليم.
وفي عصر الإمبريالية، ومنذ مراحلها الأولى، كانت البعثات البروتستانتية تدير مدارس في جميع المناطق الجغرافية التي كانت توجد فيها، بما في ذلك الكثير من المدارس الأجنبية في الشرق الأدنى، مثل “كلية الأناضول” في سالونيك باليونان، و”كلية روبرت” في اسطنبول، وكذلك الجامعات الأمريكية في القاهرة وبيروت التي يعود تاريخهما إلى القرن التاسع عشر.
كما قامت المدارس التبشيرية بتدريس السكان الأصليين السيادة الأخلاقية والمادية، بدلاً من الوعظ المباشر بالبروتستانتية، وعملت كوكلاء متحمسين للإمبريالية الأنجلوسكسونية في أنحاء العالم.
الصحفي والأكاديمي، جيريمي سالت، أستاذ بقسم العلوم السياسية في جامعة بيلكنت، أنقرة، يشير إلى أن المبشرين، سواء في الإمبراطورية العثمانية أو الهند أو الصين أو في بعض جزر المحيط الهادئ البعيدة، لم يكونوا حاملين لحقيقة الإنجيل فحسب، بل جاءوا أيضًا كممثلين للعرق الأنجلوساكسوني وعملاء لحضارة الغرب العظمى.
وعلى نحو متصل، يتحدث الأكاديمي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، أستاذ الأدب بجامعة كولومبيا الأمريكية، في كتاباته عن الدور الميسر والأساسي للبعثات في توسع الإمبريالية من أستراليا إلى جزر الهند الغربية من خلال استعمار عقول السكان المحليين في مدارسهم.
التبشير بالقوة
يعد التأثير التبشيري على الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية من بين أكثر التأثيرات وحشية وحزنًا. فبسبب افتقارهم إلى أنظمة حاكمة مستقرة والمصادر المادية ضد تغلغل الاستعمار الفرنسي والبريطاني والأمريكي لأراضيهم، لم يتمكنوا من منع سرقة أراضي أجدادهم من جانب المستوطنين البيض الذين جاءوا من الجانب الآخر للمحيط الأطلسي.
وتعد الحالة الأمريكية أفضل أشكال الامبريالية بسبب توفيرها لعدد هائل من المنح الدراسية وكذلك إنتاج أفلام ومسلسلات تلفزيونية حول معاناة الهنود الأصليين من استعمار الأراضي التي أصبحت الآن الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى، يتجاهل الكثيرون البؤس الطويل الذي عاشه السكان الأصليون في كندا، بفضل نجاح البلاد في تقديم نفسها كدولة محبّة للسلام ومضيافة لا توجد فيها مشكلات محلية أو دولية كبيرة. كما وعدت كندا في السابق بأرض حرة وخصبة للمستوطنين الأوروبيين البيض، واجتذبت موجات الهجرة خلال القرن التاسع عشر.
وبعد تجريدهم من أراضي أجدادهم، أُجبر السكان الأصليون على عيش حياة محدودة في محميات دُفعوا إليها بموجب القانون الهندي الكندي عام 1876.
كما فرض القانون المدارس الداخلية لأطفال السكان الأصليين كجزء من استيعاب كندا لهم بالقوة، من خلال استبدال ثقافتهم الأصلية ودينهم بالثقافة البريطانية والفرنسية والمسيحية.
وعلى الرغم من أن المدارس كانت تدار من جانب الكنائس الرومانية الكاثوليكية والبروتستانتية والأنجليكانية والكنائس المتحدة، فقد تم تمويل المدارس وتشجيعها من قبل الحكومات الكندية.
حرمان ممنهج
بحسب تقديرات لجنة الحقيقة والمصالحة الكندية TRC، التحق 150 ألف طفل من السكان الأصليين بالمدارس الداخلية الهندية خلال الفترة من عام 1876 إلى عام 1996 عندما أغلقت آخر مدرسة داخلية في كندا.
أضر نظام المدارس الداخلية بأطفال السكان الأصليين بشكل كبير من خلال إبعادهم عن عائلاتهم، وحرمانهم من لغات وثقافة أجدادهم، وتعرض الكثير منهم للاعتداء الجسدي والجنسي.
وبعد انفصالهم عن عائلاتهم وثقافتهم وإجبارهم على التحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، تخرج الطلاب الأصليون من المدارس الداخلية وهم غير قادرين على الاندماج في مجتمعاتهم، وظلوا خاضعين للمواقف العنصرية في المجتمع الكندي السائد.
ولكن النظام نجح في النهاية في تعطيل انتقال ممارسات ومعتقدات السكان الأصليين عبر الأجيال، كما كان مقصودًا في بداية الأمر.
علاوة على ذلك، أدى إرث النظام الداخلي للمدارس إلى زيادة حدة حالات إرهاق – مابعد الصدمة، وإدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والانتحار، والتي لا تزال قائمة داخل مجتمعات السكان الأصليين.
وبعد تشكيل لجنة للتحقيق في عواقب نظام المدارس الداخلية الهندية، وقرار تعويض الضحايا، تحث الحكومة الكندية الكنيسة الكاثوليكية على الاعتذار عن دورها، لكن هذا لا يمس جوهر المشكلة، وهو استخدام الدين المسيحي لتعزيز المصالح المادية للدول.
(*هذا المقال سبق أن تم نشره في 12 يوليو 2021 وأعيد نشره في التاريخ المشار إليه أعلاه)