حنفي: الإسلام لا يحتاج إلى علمانية غربية .. الجابري: الإسلام ليس كنيسة حتى نفصله عن الدولة

في سلسلة ’’حوار بين المشرق والمغرب‘‘ التي كانت تنشر في مجلة ’’مواقف‘‘، كانت تجري حوارات بالغة الأهمية بين المفكر المغربي محمد عابد الجابري والمفكر المصري حسن حنفي تناولت عدة قضايا من ضمنها قضية ’’العلمانية‘‘ التي لا تزال من ’’أكثر الموضوعات مدعاة للبس في الفكر العربي الحديث والمعاصر‘‘ كما وصفها الجابري نفسه.

ننقل الحوار بشأن هذا الموضوع كاملا مثلما صدر في مجلة مواقف في الكتاب السادس والخمسين.

****

1- حنفي:

الإسلام لا يحتاج إلى علمانية غربية

عزيزي محمد؛

العلمانية لفظ معرب وليس لفظا عربيا أصيلا، نقلا عن لفظ Secularism من اللفظ اللاتيني Saeculum الذي يعني العصر. فهو لفظ ينتمي إلى الحضارة الغربية وبالتالي يلزم شرحه لإفهام الناس من دعاة العلمانية، وفي نفس الوقت يلقى أشد معارضة من أنصار الأصالة الذين يرفضون الوافد جملة وتفصيلا. وهو يعني في الغرب الفصل بين الكنيسة والدولة، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. وقد كان ذلك هو الحل الوحيد لتقدم الشعوب الأوروبية بعد أن سيطرت الكنيسة على الدولة، ونشأ الصراع بين البابوات في روما وبين الأباطرة والملوك في الدول الأوروبية. كان النصر للبابوات أولا ثم أصبح النصر للملوك ثانيا منذ الثورة الفرنسية ’’اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس‘‘. كان الحل هو الفصل بين السلطتين، الكنيسة لشؤون الدين، والدولة لشؤون الدنيا، وبالتالي العودة إلى قول المسيح ’’اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله‘‘، فما تم في العصر الحديث من الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية هو عود إلى روح المسيحية الأولى.

وفي الحضارة الغربية أصبحت العلمانية جزءا من الحضارة اليومية، وقامت عليها الدساتير الأوروبية، فلا دين رسميا للدولة، ولا دين لرئيس الدولة كأحد شروط الرئاسة، ولا قانون كنسيا ينظم العلاقة بين الأفراد مثل قانون الأحوال الشخصية أو القانون الجنائي، ولا تعليم دينيا في المدارس، ولا دعوات دينية في أجهزة الإعلام.

ومع ذلك، وبعد انتصار الملوك على البابوات تم استخدام الكنيسة لتحقيق مصالح الدولة. فكانت الكنيسة مقدمة للاستعمار وتالية له. وارتبط الاستعمار بالتبشير، والتبشير بالاستعمار. يتم استئناس الشعوب اللاأوربية أولا عن طريق تحويلهم من الديانات الوطنية المحلية إلى المسيحية الغربية وبالتالي زرع الولاء للغرب بعد نزعه عن الأوطان، ويتحول الإيمان بالدين الغربي إلى ولاء للغرب السياسي. كما أيد الاستعمار أيضا حركات التبشير بالعون المادي والعسكري نظرا لأن التبشير ممهد له، ولاتفاق المصالح بينهما. وقد أدى ذلك فيما بعد إلى نشوء الكنائس الوطنية من أجل دين وطني دفاعا عن الاستقلال الوطني للشعوب كما هو الحال في الكنيسة السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية (مارتن لوثر كنغ) وفي جنوب أفريقيا (الأسقف توتو).

وهذا الموضوع لا شأن لنا به من حيث هو تاريخ أوروبي صرف. ولكن لما انتشرت مفاهيم الثقافة الغربية بيننا وأصبحنا نفهم أنفسنا، ونعبر عن أمانينا، وندافع عن حقوقنا بهذه المفاهيم مثل العلمانية واللبيرالية بعد أن انتشرت وذاعت بيننا، وكانت أحد أسباب التقدم في الغرب، ولما كان التقدم واحدا، وأمل الشعوب واحدا، وقانون التاريخ واحدا، فلا ريب أن الدفاع عنها والتمسك بها والدعوة إليها يحقق التقدم في مجتمعاتنا دون ما مراعاة لخصوصيات الشعوب ولمراحل التاريخ المتباينة التي تمر بها المجتمعات، وعدم وجود نمط واحد للتقدم. والحقيقة أن ذلك عجز منا عن إبداع طرق جديدة للتقدم من وحي الواقع وإمكانيات الفكر وخبرات الشعوب وثقلها التاريخي.

قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلى شميل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض، يدعون للعلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين عن الدولة، الدين لله والوطن للجميع. والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، لا ينتسبون إلى الإسلام دينا أو حضارة، وتربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوا إليه ماثلا في تقدم الغرب الفعلي.

وتبعهم في ذلك أيضا بعض المسلمين مثل قاسم أمين في دعوته إلى ’’تحرير المرأة‘‘ و ’’المرأة الجديدة‘‘، وعلي عبد الرزاق في ’’الإسلام وأصول الحكم‘‘، وخالد محمد خالد في بداياته الأولى، ’’من هنا نعلم‘‘ وباقي مؤلفاته الأخرى قبل أن يتحول في الثمانينيات إلى التوحيد بين السلطتين من جديد في ’’الدين والدولة‘‘، وإسماعيل مظهر في دعوته إلى الداروينية قبل أن ينقلب في الستينيات إلى ’’الإسلام أبدا‘‘، وزكي نجيب محمود قبل أن يتحول في السبعينيات منذ ’’تجديد الفكر العربي‘‘ ولو أن الفكر العلمي الغربي ما زال هو مقياس التجديد، وفؤاد زكريا، ومعظم الماركسيين التقليديين آخذين بنصف عبارة ماركس الأولى ’’الدين أفيون الشعب‘‘ وتاركين النصف الآخر و ’’صرخة المضطهد‘‘.

وقد أدي ذلك بالحركات الإسلامية إلى رفض العلمانية عن حق، وربطها بالتغريب بما يتضمن ذلك من استعمار وتبشير، والتمسك بالإسلام الذي يربط بين الدين والدنيا. ورفعت شعار ’’الحاكمية‘‘ طبقا للآية: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الذين يرفضون متطلبات الإيمان، والفاسقون الذين يقبلون الإيمان نظرا ويرفضونه عملا، والخاسرون الذين لا يعرفون مصالح دنياهم.

فالخطأ الأول، نقل العلمانية الغربية، أحدث ردّ فعلٍ خاطئ ثان، وهو الحاكمية. ومجموع الخطأين لا يكون صوابا. والتحدي لنا هو كيف يمكن تحقيق أهداف الفريق العلماني، ما تصبو إليه مجتمعاتنا من حرية وتقدم، وفي نفس الوقت كيف نستطيع أن نحقق مطالب الفريق الثاني، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، منعا للازدواجية بين الدنيا والدين، بين العمل والإيمان، بين الشريعة والعقيدة.

وهذا أمر ميسور، فالشريعة الإسلامية شريعة وضعية، تقوم على تحقيق المصالح العامة، وهي مقاصد الشريعة كما حددها الأصوليون: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات. والضروريات خمس: المحافظة على الدين، والحياة، والعقل، والعرض، والمال، وهي مقومات الحياة. الدين هو الحقيقة الموضوعية المستقلة عن أهواء البشر، والحياة الإنسانية كقيمة في ذاتها، والعقل الذي بدونه لا يكون تكليف ولا حساب، والعرض الذي بدونه لا يكون للإنسان كرامة، والمال الذي يقيم أود الحياة ويضمن بقاءها واستمرارها. هذه الضرورات الخمس هي ما يدافع عنها العلمانيون إلا أنهم يأخذونها من الحضارة الغربية وليس من الشريعة الإسلامية، من الآخر وليس من الأنا، تقليدا وليس إبداعا. وما يخشى منه العلمانيون من شدة قانون العقوبات (الحدود) وهو ما يدافع عنه الإسلاميون كرد فعل على استنكار العلمانيين، هو في الحقيقة وهم ناتج عن شق الصف الوطني، والحرب بين الإخوة الأعداء، نتيجة لما رسب في وعينا القومي من تكفير الفرق جميعا إلا واحدة. فالأحكام الشرعية نوعان: أحكام الوضع وأحكام التكليف. الأولى هي الأفعال من حيث بنيتها ونسيجها في الواقع. فلكل فعل سبب، ولا يتحقق إلا بشرط. وقد يعوقه مانع، وقد يأتي في صورة مثالية كما ينبغي أن يكون أو في صورة واقعية لما يمكن أن يتحقق منه،  وقد ينم عن صدق ونية أو عن مظهر وشكل وتحايل، فحد السرقة لا يطبق إلا إذا كان السبب واضحا وهو التعدي على حقوق الغير وليس إقامة الأود، وإلا إذا كان شرط الفعل

متحققا وهو البلوغ والتكليف والكفاية. ولا يطبق إذا كان هناك مانع يعوقه مثل الجوع أو التفاوت في الرزق بلا سبب من عمل أو جهد. وقد يأتي الإنسان ما يستطيع من الفعل طبقا للمقدرة والأهلية فلا تكليف بما لا يطاق، ولا ضرر ولا ضرار. ويأتي عن صدق ونية لا عن مظاهر خارجية نفاقا وظهورا وادعاء لنيل شهرة أو منصب.

أما تضييق الشريعة الخناق على الناس الذي يضيق به العلمانيون ذرعا فإنه أيضا شعور ينشأ لديهم نتيجة لسوء فهم لروح الشريعة وكأنها أتت للمنع والزجر والتحريم وليس لإشباع الرغبات وقضاء الحاجات وإطلاق طاقات الإنسان وإحساسه بالطبيعة. فالأحكام الشرعية الخمسة: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح، إنما تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي. فالواجب هو ما يفعله الإنسان بطبيعته عن ضرورة داخلية مثل الإتيان بالأفعال في أوقاتها، والمحرم هو ما يكف الإنسان عن فعله عن طبيعة أيضا وبناء على ضرورة داخلية كذلك مثل العدوان على الحرمات، والمندوب هو ما يفعله الإنسان طواعية واختيارا إذا ما أراد وكان قادرا، والمكروه هو ما يمتنع الإنسان عن فعله أيضا طواعية واختيارا بغية الكمال الخلقي، أما المباح فهو الفعل الطبيعي الخارج عن نطاق الأحكام الصورية، هو الفصل التلقائي الذي يعبر عن ميل الإنسان الطبيعي إلى الخير، فعل البراءة والطفولة. فالأحكام الشرعية الخمسة على هذا النحو وبهذا الفهم الطبيعي إنما تصف أفعال الإنسان الطبيعية كما يبغي العلمانيون خارج دائرة الحلال والحرام الصوريين المفروضين من الخارج.

لقد أعطت الشريعة المبادئ العامة، واستنبط الفقه منها. المبادئُ العامة ثابتة وهي الحفاظ على مقاصد الشريعة أما الفقه فمتغير بتغير الحاجات والمصالح. وإذا كان القدماء قد استنبطوا فقها استجابة لظروفهم فإن باستطاعتنا إبداع فقه تلبية لحاجاتنا، وطبقا لظروفنا، وتحقيقا لمصالحنا المتغيرة جيلا عن جيل. ولم الخوف من التشريع والجرأة فيه؟ هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم.

الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية. إنما تخلفنا عن الآخر هو الذي حول الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود حتى زهق الناس واتجهوا نحو العلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وليبيرالية وحرية وديمقراطية وتقدم. فالعيب فينا وليس في غيرنا، في تقليدنا للغير وليس في إبداعنا الذاتي.

2- الجابري:

الإسلام ليس كنيسة حتى نفصله عن الدولة

عزيزي حسن؛

مرة أخرى تتاح لي فرصة إبداء الرأي في موضوع من أكثر الموضوعات مدعاة للبس في الفكر العربي الحديث والمعاصر. لقد سبق لي أن كتبت في السلسلة التي أنشرها شهريا في ركن ’’آفاق‘‘ من هذه المجلة حلقة بعنوان ’’بدل العلمانية: الديمقراطية والعقلانية‘‘ (اليوم السابع عدد 224 تاريخ 22/8/1988)، وكنت أشرت إلى أن شعار العلمانية رُفع أول ما رُفع في لبنان ربما في منتصف القرن الماضي (التاسع عشر) وذلك من أجل التعبير عن مطالب الاستقلال عن الخلافة العثمانية، أو على الأقل للمطالبة بالديمقراطية واحترام حقوق الأقليات… وقد خلصت في نهاية المقالة إلى النتيجة التالية: قلت: ((مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى إنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها ومشروعيتها عندما يُعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار العلمانية.

وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية. فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي. الديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج)). ثم أضفت قائلا: ((إنه لا الديمقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام. كلا، إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول إنه إذا كان العرب هم ’’مادة الإسلام حقا‘‘، فإن الإسلام هو روح العرب. ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوما أساسيا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعا، مسلمين وغير مسلمين)).

ولذلك سيكون منطلقي هو الفكرة التي عبرت عنها –أخي حسن- في مستهل الفقرة الأخيرة من مقالتك حيث كتبت تقول: الإسلام دينٌ علماني في جوهره، ومن ثمة لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة ’’الغربية‘‘. وهنا أجدني مضطرا إلى القول: إنه وإن كنت متفقا معك فيما يخيل إلي أنك تريد أن تقوله فإني أرى أن الكيفية التي عبرت بها عنه غير مناسبة. إن عبارة ’’الإسلام دين علماني‘‘ التي استعملتها لا تختلف في نظري عن عبارات أخرى مثل ’’الإسلام دين اشتراكي‘‘ أو ’’الإسلام دين رأسمالي‘‘ أو ’’الإسلام دين لبرالي‘‘… إلخ. إن هذه العبارات ومثيلاتها لا تحل المشكل  ولا تدفع إلى التفاهم.

وفي نظري فإن المشكل الجوهري هو ’’شكل الدولة‘‘، وأعتقد أنه من الواجب التعامل مع هذا المشكل في وضوحه وبساطته وباللغة التي لا تخرج به عن نطاقه. وفيما يلي مجملٌ لوجهة نظري في الموضوع.

1- أنا أرى أن الإسلام دنيا ودين، وانه قد أقام دولة منذ زمن الرسول ، وأن هذه الدولة توطدّت أركانها زمن أبي بكر وعمر. وإذن فالقول بأن الإسلام دين لا دولة هو في نظري قول يتجاهل التاريخ.

2- أنا مقتنع تماما بأن الإسلام، الذي هو دين ودولة في آن واحد، لم يحدد لا بنص قرآني ولا بحديث نبوي الشكل الذي يجب أن تكون عليه الدولة فيه، وإنما ترك المسألة لاجتهاد المسلمين، فهي من جنس الأمور التي يصدق عليها قول الرسول عليه السلام ’’أنتم أدرى بشؤون دنياكم‘‘. يدل على ذلك اختلاف الصحابة في سقيفة بني ساعدة إذ تناقشوا طويلا لينتهوا أخيرا إلى اختيار أبي بكر، ويدل عليه أيضا اختلاف الخلفاء الراشدين في طريقة تعيين كل منهم لمن يخلفه، فأبو بكر استشار الصحابة وعيّن برضاهم عمر بن الخطاب، وهذا ترك الأمر بين ’’أهل الشورى‘‘، وهم ستة من كبار الصحابة الذين كانوا يمثلون اتجاهات الرأي العام يومئذ، وقد تناقشوا طويلا ثم انتهوا إلى تعيين عثمان. واختلف الصحابة أكثر زمن الفتنة والثورة على هذا الأخير، واختلفوا بعد مقتله وقامت حرب الجمل وحرب صفين حول هذه المسألة، مسألة الإمامة. فهي مسألة خلافية.

3- وبعد حرب صفين بين علي ومعاوية، ظهرت آراء ونظريات في الكيفية التي يجب أن يكون عليها الحكم في الإسلام: الشيعة تقول بحصر الخلافة في ذرية علي… والخوارج جعلوها، أولا، حقا لكل عربي حر، ثم عندما انضم إليهم فريق من الموالي جعلوها من حق كل مسلم عادل. أما معاوية فقد أقام ’’دولة السياسة‘‘ وقد بايعه كبار الصحابة بما فيهم الحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير وغيرهم فضلا عن الأغلبية الساحقة من المسلمين.

4- المسلمون مجمعون على أن الخلافة دامت ثلاثين سنة ثم انقلبت إلى ’’ملك عضوض‘‘ بتعبير بعضهم أو ’’ملك سياسي‘‘، بتعبير آخرين. وجميع أهل السنة متفقون على أن هذا التحول من ’’الخلافة النبوية‘‘ إلى ’’الملك السياسي‘‘ لم يكن في الإمكان رده، ومنهم من رأى في حدوثه أمرا يقتضيه التطور وتقتضيه ’’طبيعة العمران البشري‘‘ حسب تعبير ابن خلدون. والفرق بين دولة الخلافة النبوية، زمن الراشدين، و’’الدولة السياسية‘‘، التي قامت بعدها منذ معاوية يشرحه أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي الأشعري الأندلسي كما يلي، وهو يمثل ’’وجهة نظر المغرب‘‘ في الموضوع. قال ((كان الأمراء قبل هذا اليوم وفي صدر الإسلام هم العلماء، والرعية هم الجند، فاطرد النظام، وكان العوام القواد فريقا والأمراء آخر، ثم فصل الله الأمر بحكمته البالغة وقضائه السابق فصار العلماء فريقا والأمراء آخر، وصارت الرعية صنفا وصار الجند آخر، فتعارضت الأمور…)).

وهذا في نظري وصف دقيق وواقعي لما حدث. وإذا شئنا التعبير عنه بعبارات أبسط وأوضح أمكن القول، إن الدولة زمن النبي والخلفاء كانت دولة فتوحات: في قمتها قادة عسكريون هم في نفس الوقت رجال الدين، رجال الدعوة، أما في قاعدتها فكانت الرعية كلها جندا، لقد جندت القبائل العربية كلها للفتح. لم يكن هناك إذن فصل بين شيء يمكن تسميته بـ ’’المجتمع السياسي‘‘ أعني أجهزة الدولة بمختلف أنواعها، وبين شيء اسمه المجتمع المدني: العلماء والأحزاب والتنظيمات الاجتماعية وعامة الناس. أما زمن معاوية فقد انقلبت دولة الفتوحات هذه إلى دولة ’’الملك السياسي‘‘: دولة انفصل عنها الأمراء عن العلماء والجند عن الرعية، فبرز ’’مجتمع سياسي‘‘ مكون أساسا من الأمراء والجند، و’’مجتمع مدني‘‘ مكون أساسا من العلماء والرعية، ولم يكن من الممكن –من وجهة نظري- أن يستمر الوضع كما كان عليه الأمر من قبل لأن ذلك كان يقتضي أن يلتحق جميع ’’العلماء‘‘، وقد كثر عددهم،  بالأمراء ليشكلوا معهم قيادة واحدة كما كان الحال زمن النبي والراشدين، كما كان يقتضي أن يلتحق جميع المسلمين، عربا وغير عرب، وفي جميع الأصقاع، بصف الجند المقاتلين الفاتحين. لقد كثر العلماء من قراء ومحدثين ومفكرين وفقهاء ولغويين… إلخ، فكان لا بد أن ينفصلوا عن الأمراء، كما كثر عدد المسلمين، شرقا وغربا، فكان لا بد أن يكون منهم عدد قليل من الجند وعدد كثير هم الرعية التي تعمل من أجل المجتمع كله في الحرف والمهن من زراعة وصناعة … إلخ. إن انفصال العلماء عن الأمراء والرعية عن الجند كان أمرا محتوما.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه بالنظر إلى هذا التطور الذي حصل لم يكن في إمكان معاوية –حتى ولو أراد ذلك- أن يسير في الناس بسيرة أبي بكر وعمر وعثمان، لأن هؤلاء كانوا قادة لمجتمع من العلماء/الأمراء والجند/الرعية. أما معاوية، ومن جاء بعده سواء في العصر الأموي أو في العصور التالية له، فقد كان على رأس مجتمع يتألف من أمراء وجند، ومن علماء ورعية. وقد عبر معاوية عن ذلك في خطبة ألقاها في أهل المدينة عندما زارها أول مرة بعد انتصاره، إذ قال لهم: ((أردت أن أحمل نفسي على سيرة أبي بكر وعمر وعثمان فنفرت من ذلك نفارا شديدا))، ثم أضاف قائلا: ((فسلكت بها طريقا لي ولكن فيه منفعة. مواكلة حسنة ومشاربة جميلة. فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم ولاية)). ومعاوية، كما هو معروف، صحابي، وكان من كتاب الوحي للرسول كما كان عاملا على الشام على عهد عمر وعثمان. والذين خاطبهم معاوية في المدينة واستمعوا إلى كلامه كانوا من الصحابة والتابعين، وقد أقروه جميعا على ما قال لأنهم لم يروا فيه ما يخالف الدين. قال لهم إني سأسير فيكم على أساس المصلحة والمنفعة، ولا أستطيع أن أسير فيكم بسيرة أبي بكر وعمر، فقبلوا منه ذلك وأجمع المسلمون، إلا الخوارج وكانوا أقلية، على صحة ولايته، فقد بايعوه بما في ذلك الحسن والحسين، وسمي ذلك العام عام ’’الجمـــاعـــة‘‘ كما هو معروف.

هذا واقع تاريخي، هو جزء من الإسلام لأنه واقع أقره المسلمون بما فيهم كبار الصحابة. وبما أنه ليست هناك نصوص شرعية من قرآن أو حديث، تحدد شكل الحكم وأسلوبه وكيفيته وأجهزته… إلخ، فإن ما يبقى بأيدي المسلمين هو تاريخهم، هو التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية، وهي تجربة مديدة وغنية عرفت الخلفاء الراشدين كما عرفت معاوية وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد والمأمون وغيرهم مشرقا ومغربا. وسيظل حكم الخلفاء الراشدين مثلا أعلى للحكم في الإسلام، ولا أعتقد أنه بالإمكان إعادة تحقيقه من جديد كما كان، لأن من جملة شروط وجوده قيام ’’دولة الفتح‘‘ يكون فيها الأمراء والعلماء فريقا واحدا والجند والرعية فريقا واحدا، وهذا شيء مستبعد، على الأقل على المدى المنظور. لم يعد ممكنا، على –المدى المنظور- إلا شيء واحد هو إقامة الدولة على أساس المصلحة والمنفعة، ولكن لا على الطريق التي سلكها معاوية الذي اعتمد في حكمه على قبيلته ومن تحالف معها، بل على الطريقة التي يقتضيها عصرنا، الطريقة التي تهدف إلى إشراك الأمة كلها في اختيار الحكام ومراقبتهم وفق ’’قواعد ونظم قانونية دستورية‘‘.

إن شكل الدولة في الإسلام ليس من الأمور التي شرع لها الإسلام، إنها من الأمور التي تركها لاجتهاد المسلمين يتصرفون فيها حسب ما تمليه المنفعة والمصلحة وحسب مقاييس كل عصر. وإذن فالقول إن الإسلام دين علماني، هو في نظري لا يختلف عن القول ’’الإسلام دين غير علماني‘‘. فالعلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة أو تفصل الدولة عنها. أما إذا كان المقصود هو انفصال العلماء عن الأمراء والجند عن الرعية، أي ما نعبر عنه اليوم بفصل الدين عن السياسة وعدم السماح للجيش بالانخراط في الأحزاب السياسية، فهذا ما حدث فعلا منذ معاوية كما رأينا وهو ما يشكل الجزء الأعظم من التجربة التاريخية للأمة الإسلامية.

X