الفهرس

بقلم. د مصطفى أمزير*  

يقينا ،كما يؤكد الفلاسفةُ والمؤرخون ،فالتاريخ لا يعيد نفسه حتى وإن تشابهت الحوادث وتماثلت الوقائع! وكل ما يمكن أن نحسه أحيانا من تماثلِ الحاضر مع ما سبق أن مر معنا في الماضي، يجد تفسيره في علم النفس الإدراكي داخل مبحث مثير (Déjà vu) ؛العبارة الفرنسية التي تعني “شوهد من قبل‘‘.      

كثيرة هي الأعمال الأدبية التي بنت مادتها التعبيرية على فكرة (شوهد من قبل)، حيث يتداعى ذهن المبدع، من خلال وقائع يعيشها في حاضره إلى الماضي الشبيه فيعمد إليه “قناعا‘‘ يقرأ به زمنه على سبيل التفسير والنقد والاستشراف. يمكن أن نتذكر داخل هذا السياق، على سبيل التمثيل لا للحصر، ثلاثية نجيب محفوظ التاريخية (عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة) التي قرأ بها الواقع المصري السياسي أثناء الحرب العالمية الثانية. ورواية (الزيني بركات) لجمال الغيطاني التي تحكي عن القمع والانتهازية.. في العصر المملوكي بالشكل الذي يحيل على شبيهه في الراهن العربي. ورواية (الموريسكي) لحسن أوريد التي استدعتها مأساة حرب الاجتثاث التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، ورواية (ابق حيا) للكاتب الشاب إبراهيم أحمد عيسى، الفائز بجائزة “كتارا‘‘ للرواية العربية ، التي رسمت متاهات الفوضى والقتل المجاني في قاهرة القرن الحادي عشر بما يحيل تماما على أجواء القاهرة بعد انقلاب يونيو 2013م …  

“أبو رغال‘‘ في دبي! 

تحكي الذاكرة العربية أن أبرهة كان قد بنى في اليمن معبدا سماه ” القليس‘‘ وأراد أن يُحوِّل العرب من الحج للكعبة إلى الحج لبيته الذهبي الجديد. غير أن أعرابيا من “أيها الناس‘‘ جعل من مشروع أبرهة العظيم ذاك مسخرة بين العرب حينما قرر التغوط في صحنه يوم تدشينه وافتتاحه! وتروي الحكاية أن أبرهة غضب غضبة شديدة فأقسم ليهدمن الكعبة التي يُصرُّ العرب على الحج إليها دون بيته، وجهز لذلك جيشا عرمرما يتقدمه فيل لهدم الكعبة. غير أنه وجنوده لم يكونوا على دراية بالمسالك المؤدية إلى مكة لأنهم أحباش، فكانت الحاجة ماسة إلى دليل عربي. لم يرض أحد من عرب اليمن بأن يقوم بهذه المهمـة الآثمـة غيـر رجـلٍ واحـد يُكنّـى بأبـي رغـال مقابـل مبلـغ مـن المال !    

ما أشبه اليوم بالأمس إذا غيرنا في المشهد قليلا: نضع بيت المقدس مكان الكعبة، و”نتنياهو” بدل أبرهة ، وعوض الأعرابي الأبي نضع جماهير الأمة، وغيّرنا “أبا رغال‘‘ بحاكم دبي الذي قبل منتشيا بمهام الدليل الذي سرّب العدو إلى الخطوط الخلفية وراء متاريس الممانعة السياسية المهلهلة أصلا بالاختراقات الاقتصادية والأمنية.. في أفق المساعدة على انهيارها التام. تبقى في المشهد – مع الأسف!- لقطة واحدة عصية على التحيين: فأبو رغال هو من قبض الثمن في القصة القديمة مقابل تعاونه اللعين ،فيما “أبو رغال‘‘ في النسخة الجديدة هو من دفع لجيش أبرهة تكاليف بناء “القليس‘‘ ومصاريف الغزو وحملات التدليس!  

“أبو الخيزران‘‘ يبني المستوطنات!      

الخيزران (القصب): شجر سامق، أجوف الداخل، عقيم لا يطرح ثمارا؛ ومَن قرأ رواية “رجال في الشمس‘‘ لغسان كنفاني لابد وأنه يتذكر شخصية أبي الخيزران ويتذكر معها مأساوية المشهد الختامي للحكاية المنتهي باختناق الفلسطينيين الثلاثة داخل الصهريج المشبع بحرارة الصحراء، والذي كان يستعمل وسيلة لتهريب المهاجرين سرا إلى الكويت، بعد أن لم يبادر أحد منهم إلى دق جدران الصهريج الذي كانوا يختبئون داخله وهم على حاجز الحدود، رفضا للموت الذي أوصلهم إليه “أبو الخيزران‘‘ قائد الشاحنة المادي الهوى ،الأبله العقيم. يفكر “أبو الخيزران‘‘ ، في ذاك المشهد الختامي الفاجع، في إلقاء جثث الضحايا في الصحراء، لكنه يتراجع، بعطف!، عن هذا القرار رأفة على الجثث من أن تنهشها الضواري، ويقرر بدل ذلك أن يلقي بها فوق أول مزبلة يقابلها على الحدود ليَسهُل اكتشافها ويتم دفنها. وبعد أن يلقي بالجثث يسير قليلاً .. ثم يعود ليجردها من الساعات والأموال!.. وينطلق مبتعداً وهو يتساءل بدهشة: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟‘‘ ..       

نموذج أبي الخيزران رمزَ في الرواية إلى القيادة الانتهازية التي تدعي التفكير في مصلحة الفلسطينيين العامة بينما هي في العمق تستثمر في قضيتهم لمصالحها الشخصية مهما تأذوا… وحينما بدأ الثوريون داخل مخيمات الشتات، بداية من ستينيات القرن الماضي، بدق جدران القضية الفلسطينية، فإن”أبا الخيزران‘‘ لم يتنحَّ جانبا وإنما أصبح لصوته “منطق نضالي‘‘ مسموع، يرى أن “المقاومة لا تمثل خيارا استراتيجيا للتحرر، وإنما وسيلة لتحسين شروط التفاوض مع العدو‘‘! وأن لا مجال لانهيار الأيديولوجيا الصهيونية إلا عبر توريطها في تناقضاتها الداخليـة عبــر الســلام (!)..” أبو الخيزران‘‘ هذا تحول مع الوقت من مجرد “سائق شاحنة‘‘ بسيط يعمل لدى “الغير‘‘ بأجر، إلى رجل أعمال ومستثمر ووسيط…صاحب مشاريع شخصية كبيرة في دبي والشارقة.. يشتري الأرض نيابة عن المستوطنين، ويدير أوراش بناء المستعمرات الصهيونية في تحد أخلاقي فج غير مسبوق للشعور والقومي والديني!  

كأني بغسان كنفاني يردد ” لماذا لا تدقوا جدران الخزان؟‘‘ . 

“أبو منشار‘‘ في شرق المتوسط!  

“وضعوني في كيس كبير، أدخلوه في رأسي، وقبل أن يربطوه من أسفل، أدخلوا قطتين.. كانت يداي مربوطتين إلى الخلف، كنت مستلقيا على وجهي أول الأمر، وكلما ضربوا القطط وبدأت تنهشني، وحاولت أن أنقلب على جنبي، أحس برجل ثقيلة فوق كتفي، على وجهي، وأحس الأظافر تنغرز في كل ناحية من جسدي‘‘ .. “لما فكوا الكيس، تراكضت القطط مذعورة، كأنها خرجت من الجحيم، كنتُ دامي الوجه وأحسست بالنزيف من عيني اليسرى. ضحكوا كثيرا.. لما رأوا دمائي.. استلقى “نوري‘‘ على ظهري، كان يضحك من الفرح واللذة، وبعد أن مسح عينيه من آثار الدموع، قال لي: “ما رأيك بهذه الحفلة؟ ما رأيك؟ “عندي آلاف الوسائل التي تجعلك تتكلم مثل ببغاء…‘‘.      

لمن لم يطلع على رواية ” شرق المتوسط ‘‘، التي أخذت منها هذه المقاطع، يظن أن ما قرأه أعلاه جزء من تسريبات “الحفلة‘‘ التي تولاها رجال الأمير داخل السفارة السعودية بإسطنبول وهم ” يحققون‘‘ مع المغدور “جمال خاشقجي‘‘ رحمه الله قبل دقائق من قتله ونشر جسده إلى قطع في واقعة بالغة الشراسة والهمجية.   

لا يقف التشابه بين الرواية و حفلة التحقيق عند هذا الحد؛ فكاتب الرواية (عبد الرحمن منيف) سعودي الفرع، وبطلها (رجب إسماعيل) مثقف معارض كجمال خاشقجي تماما. فيما الجلاد ” النوري‘‘ بدا في الرواية كثير الضحك، بالغ الدموية، مهتما بالجمال، بالشكل الذي يحيل على “الذي‘‘ يتبادر إلى ذهنك رأسا! من باب ” شوهد من قبل‘‘ طبعا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب مغربي

X