إذا كانت الديمقراطية تقوم على أساس متين يتمثل في “المحاسبة‘‘، فإن “المحاسبة‘‘ بدورها يلزمها أساس متين يتمثل في حق المحاسِب في الوصول إلى المعلومة

سعيد منصفي التمسماني 

إذا كانت الديمقراطية تقوم على أساس متين يتمثل في “المحاسبة‘‘، فإن “المحاسبة‘‘ بدورها يلزمها أساس متين يتمثل في حق المحاسِب في الوصول إلى المعلومة، إذ بدونها تظل المحاسبة مفرغة من روحها ولا جدوى منها ولا تأثير لها على المحاسَب، إذ كيف يستطيع من يريد أن يسائل شخصا عموميا عن مسؤولياته إذا لم يكن يتوفر على معطيات يبني عليها سؤاله؟ .. فالعلاقة، إذن، بين هذه العناصر الثلاثة: الديمقراطية والمحاسبة والمعلومة، هي علاقة وثيقة تلازمية، لا يمكن تصور نجاح عنصر منها بمنأى عن العنصرين الآخرين.    

والمعلومة هي كل ما يفيد طالبها، سواء كان باحثا أو صحافيا أو مُستقصيا أو شخصا عاما أو مواطنا عاديا، وهي عصب النظام الاجتماعي والسياسي و الاقتصادي للدولة، وتختلف درجة الحصول عليها، ضيقا وسعة، حسب طبيعة الأنظمة الحاكمة.     

وكلما كانت المعلومة متاحة للعموم دون قيود، كلما نما عطاء المجتمع وتطور، وازدهرت الدولة كوحدة متكاملة. وكلما كانت المعلومة محجوبة أو محاطة بقيود أو أنها تقع في حومة فريق دون آخر، كلما قلّ عطاء المجتمع وتقلص، وتكاسل الباحثون، وتوارت المعارف، وازدادت الفوارق الاجتماعية، وعمّت ثقافة عدم الاكتراث بالشأن العام، و ضعفت ثقافة المساءلة، وراجت بضاعة الأخبار الكاذبة في سوق تغيب عنه المعلومة الصحيحة وحيث لا خيار أمام المشتري لتفضيل بضاعة على أخرى. ولعل المتتبع للظاهرة، يحس بهذا الانطباع، لا سيما في مجال العلوم الإنسانية، إذ يجده مجالا معطّلا وغير مُنتِج في تلك الدول التي يصعب فيها الحصول على المعلومة، فتكون فيها معظم الأبحاث والأطروحات والرسالات العلمية من دكتوراه وماستر وإجازات مجرد نصوص يرصف بعضها إلى جانب بعض من غير تمحيص أو إبداع أو إتيانٍ بجديد أو قُدرةٍ على النبوغ.    

في المغرب، غداة الاستقلال، لم يكن من السهل الحصول على المعلومة، كيفما كان نوعها، مما أثر سلبا على جيل كامل و انعكس على عطائه العلمي وفهمه وإبداعه ودرجة انفتاحه. ولم تتغير الأمور في هذا المجال، على نحو يسير، إلا بعد مرور السنوات الخمس الأولى من عقد الألفية الثالثة وبداية ظهور نوع من التقارير العمومية ذات المصداقية، كتقرير الخمسينية. وربما ساعد على تطور عملية الحصول على المعلومة انتشار الأنترنت في الأوساط المغربية وتفشي ثقافة منصات التواصل الاجتماعي مما اضطر الدولة إلى محاولة احتواء جمهور الأنترنت الذي بدا وكأنه ينفلت شيئا فشيئا من القطب الإعلامي العمومي ويبحث لنفسه عن مصادر جديدة ومتنوعة للتزود بالمعلومات، فشرعت، بالتالي، وزارات الدولة ومؤسساتها بالانفتاح على المواطن من خلال مواقعها الإلكترونية وبواسطة المواقع الاجتماعية، وازدادت الوتيرة مع موجة “الربيع العربي‘‘ وصدور دستور 2011 الذي سينص في فصله السابع و العشرين على أن للمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإداراة العمومية والمؤسسات المنتخبة، وأنه لا يمكن تقييد هذا الحق إلا بمقتضى القانون.    

غير أن مسار الحصول على المعلومة، منذ صدور دستور 2011، تميز بالبطء، واستغرق الأمر سبع سنوات، أي إلى سنة 2018، لإصدار القانون 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، ولم يدخل هذا القانون حيز التنفيذ إلا في 13 مارس من سنة 2020، أي بعد سنتين من إصداره، وربما عجّلت جائحة كورونا من إجراءات تنزيل هذا القانون على أرض الواقع، بعد إعلان الحكومة عن عزمها على التقدم في مسار رقمنة الإدارة المغربية وخدماتها، فجاء منشور وزير الاقتصاد و المالية و إصلاح الإدارة رقم 5/2020 في هذا السياق لحث كافة القطاعات الوزارية و إدارتها و مؤسساتها على تفعيل مقتضيات القانون 31.13، كما أحدثت الوزارة موقعا إلكترونيا تحت عنوان www.chfafiya.ma بهدف تيسير عملية إيداع طلبات الحصول على المعلومات و معالجتها و الردّ عليها.   

*   *   *     

يُعَرِّف المُشرِّع المغربي “المعلومات‘‘، بأنها ’’المعطيات و الإحصائيات المعبر عنها في شكل أرقام أو أحرف أو رسوم أو صور أو تسجيل سمعي بصري أو أي شكل آخر. والمضمنة في وثائق ومستندات وتقارير ودراسات وقرارات ودوريات ومناشير ومذكرات وقواعد البيانات وغيرها من الوثائق ذات الطابع العام، التي تنتجها أو تتوصل بها المؤسسات أو الهيئات المعنية في إطار مهام المرفق العام …‘‘. وتُطلَب هذه المعلومات حسب المادة الثانية من القانون 31.13 و الدليل الذي أعدته وزارة الاقتصاد و المالية، من مجلس النواب ومجلس المستشارين، والإدارات العمومية، والمحاكم، والجماعات الترابية، والمؤسسات العمومية وكل شخص اعتباري من أشخاص القانون، وكل مؤسسة أو هيئة أخرى عامة أو خاصة مكلفة بمهام المرفق العام، والمؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الباب الثاني عشر من الدستور المتعلق بالحكامة الجيدة.     

ويفسح التعريف أعلاه مجالا رحبا للحصول على أنواع متعددة من المعلومات إذا توفرت الإرادة السياسية وتم تنزيل محتوى قانون الحق في الوصول إلى المعلومة تنزيلا سليما يتميز بالمرونة والشفافية والصدقية. عِلما أن المشرع استثنى نوعا من المعلومات لا يمكن الحصول عليها، تتعلق بالمصالح العليا للدولة وبحقوق الآخرين وحرياتهم، وهو استثناءٌ منطقي تطبقه كافة الدول الديمقراطية، لكنه مع ذلك يظل استثناء يستدعي بعض الانتقاد، لأن المشرع أخضعه لتقدير السلطة التنفيذية ولأعلى هيئة يمكن تقديم الطعن أمامها من طرف طالب المعلومات، و هي لجنة الحق في الحصول على المعلومة المحدثة بموجب القانون 09.08 لدى رئيس الحكومة، على أنه يجوز للمعني بطلب المعلومات أن يلجأ إلى الطعن أمام المحكمة الإدارية المختصة عند استنفاد المسطرة الإدارية.    

ويتضمن القانون المتعلق بالحق في الوصول إلى المعلومات مقتضى في غاية الأهمية، وهو ما وضعه المشرع تحت عنوان ” تدابير النشر الاستباقي‘‘، ومفاده، إلزام المؤسسات وجميع الهيئات المذكورة سابقا، أن تنشر الحد الأقصى من المعلومات التي في حوزتها والتي لا تندرج ضمن الاستثناءات المنصوص عليها بواسطة جميع وسائل النشر المتاحة خاصة الإلكترونية منها، ولا سيما المعلومات المتعلقة بالاتفاقيات التي تم الشروع في مسطرة الانضمام إليها أو المصادقة عليها، والنصوص التشريعية والتنظيمية ومشاريع القوانين ومقترحات القوانين، وميزانيات الجماعات الترابية وقوائمها المالية، وقائمة الخدمات التي تقدمها المؤسسة، وشروط منح التراخيص ورخص الاستغلال، والبرامج التوقعية للصفقات العمومية و نتائجها إذا تم إنجازها، والإحصائيات الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك من المعلومات التي ركز عليها المشرع ضمن المادة العاشرة من القنون 31.13.    

غير أنه في وقتنا الحالي، يمكن القول، إن مؤسسات الدولة و إداراتها و مرافقها العمومية بصفة عامة، ما تزال مطالبة بالتقدم بخطوات عريضة وحقيقية إن هي أرادت أن تعمل على التنزيل الحقيقي لمقتضى “تدابير النشر الاستباقي‘‘، لاسيما على مستوى الجماعات الترابية، حيث الملاحظ غياب المعلومات المنصوص عليها في المادة العاشرة أعلاه عن بواباتها الإلكترونية.    

والحقيقة أن مآلات القانون المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، ترتبط بشكل أساسي بالإرادة السياسية الحقيقية التواقة إلى إحداث تغيير جذري على مستوى تدبير الشأن العام والقطع مع ممارسات الماضي وترسيخ ثقافة الشفافية وربط المسؤولية العمومية بالمحاسبة، إذ بدون هذه الإرادة سيظل قانون الحصول على المعلومات مجرد إعلان عن النوايا وتكرارا للمشهد بطرق أخرى .. و دون الوعي بأهمية الحق في الحصول على المعلومات وتعميمها كسبيل للتقدم الذي تشارك فيه كل مكونات المجتمع، بدون هذا الوعي، ستظل ثمار هذا التشريع المهم والأساسي بعيدة المنال.

X