وهل يعني تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة بمثابة ابتعاد تدريجي عن بروكسل ..؟ وماذا تفيد المعطيات الاقتصادية حول شراكات المغرب؟

حديثٌ، منذ مدة يدور في بعض الأوساط المغربية، حول إمكانية تغيير المغرب لشراكاته الإستراتيجية من خلال انضمامه إلى المحور الذي تقوده واشنطن وخفض مستوى علاقاته مع الاتحاد الأوروبي بصفة عامة وفرنسا على وجه الخصوص.

وقد ارتفعت أسهم هذا الرأي في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد توقيع الرباط وواشنطن اتفاقية لتعزيز التعاون العسكري في أكتوبر/تشرين الأول 2020 تمتد لعشر سنوات (2020-2030)، واستئناف المغرب للاتصالات الرسمية والعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في دجنبر/كانون الأول 2020، أي في نفس التاريخ الذي أصدر فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مرسوما رئاسيا يقضي باعتراف الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها بسيادة المملكة المغربية الكاملة على كافة منطقة الصحراء.

يضاف إلى ذلك، تطوير المغرب لعلاقاته الثنائية مع المملكة المتحدة على نحو يوحي بأنها ستشهد توسعا على كافة المستويات خصوصا بعد البريكسيت.

وإذا كان التقارب الأمريكي المغربي قد عزّز الرأي القائل بانخراط المغرب بقوة في محور واشنطن، فإن ثمة عوامل أخرى تدعّم حُجته وتؤشر لتوتر علاقات المغرب بالاتحاد الأوروبي، دلَّت عليها الأزمات التي خيّمت على علاقات المغرب بإسبانيا وألمانيا في الآونة الأخيرة، وظهور نوع من الفتور في العلاقات الثنائية بين الرباط وباريس، لا سيما بعد القرار الفرنسي بشأن تشديد  شروط منح تأشيرات الدخول إلى فرنسا لمواطني المغرب وخفض عددها إلى النصف. يضاف إلى ذلك كله، إصدار محكمة العدل للاتحاد الأوروبي في 29 شتنبر/أيلول 2021 حكما يقضي بإلغاء قرارين للمجلس الأوروبي بشأن اتفاقيتين تتعلقان بالفلاحة والصيد البحري مع المغرب بعد تقديم طعن من طرف ’’البوليساريو‘‘ ضد الاتفاقيتين.

بل إن الحديث في هذه المسألة ذهب أبعد من ذلك، حيث هناك من عزا قضية توتر العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوروبي إلى نوع من الحرب الاقتصادية يشنها هذا الأخير بقيادة فرنسا لإضعاف المغرب بعد أن أبدى رغبة عملية في تنويع شراكاته والسعي إلى تحقيق سيادته الاقتصادية.

لكن السؤال حول مدى إمكانية المغرب أو رغبته في إعادة صياغة علاقاته بالاتحاد الأوروبي أو فكّ تبعيته الاقتصادية له، يظل الجواب عليه صعبا بالنظر إلى المعطيات والأوضاع القائمة؛ فما يتم تداوله إعلاميا بشأن الموضوع لا يعبر مضمونه بالدقة الكافية عنما هو قائم بالفعل.

وضعية علاقات المغرب بالاتحاد الأوروبي

يرتبط المغرب بالاتحاد الأوروبي من خلال علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية قديمة. وقد تطورت هذه العلاقات، لا سيما، بعد توقيع اتفاقية الشراكة سنة 1996 ودخولها حيّز التنفيذ سنة 2000، ثم توقيع اتفاقية سنة 2008 المتعلقة بإعطاء المغرب وضعا متقدما في علاقته بالاتحاد الأوروبي.

وقد نصت اتفاقية الشراكة المبرمة مع المغرب على حرية تنقل السلع وإنشاء منطقة تجارية حرة، تدخل حيّز التنفيذ بعد فترة انتقالية مدتها 12 سنة، أي، سنة 2012.

ويتم تنزيل مضمون اتفاقية الشراكة بين الطرفين بشكل تدريجي، وذلك بهدف الوصول إلى إرساء منطقة تبادل حر مع الشركاء تتضمن، على الخصوص، إلغاء القيود الكمية عن تنقل السلع والخدمات والدفع بالمغرب إلى الاندماج التدريجي في السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي من خلال مواءمة أنظمته التشريعية والتنظيمية مع تلك المعمول بها على مستوى منطقة الاتحاد.

وقد خضعت اتفاقية الشراكة لعدة تعديلات، آخرها تم سنة 2019، وهو التعديل الذي بموجبه أدرجت المنتجات التي منشؤها منطقة الصحراء ضمن الاتفاق الذي ستلغيه لاحقا محكمة العدل للاتحاد الأوروبي في 29 شتنبر/أيلول 2021 بحكم قابل للاستئناف بعد تسلمها طعنا تم تقديمه من طرف ’’البوليساريو‘‘ بدعوى أن الاتفاقية تشمل منتجات قادمة من  منطقة الصحراء دون موافقة سكانها.

ويتطلع المغرب بانخراطه في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، إلى رفع حجم صادراته، وتحفيز الطلب على إنتاجه بما يدعم التنمية، وتحسين علاقاته السياسية مع شركائه الاقتصاديين، وتشجيع الاستثمار الخارجي وتعزيز جاذبية الاقتصاد المغربي.

إلا أن عملية تقييم الشراكة الأورو-متوسطية بشكل عام، توَصَّل جانب كبير من السياسيين والمحللين المغاربة من خلالها إلى أنها رجّحت العنصر الأمني على حساب العناصر الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وبالتالي، يكاد يتفق جل المتتبعين لهذا الشأن على أن اتفاق الشراكة الموقع سنة 1996 لم يسفر عما كان ينتظره المغرب.

وكيفما كان الوضع، فإن الاتحاد الأوروبي، يبقى صاحب أبرز مكانة، في الوقت الحاضر، على مستوى خريطة علاقات المغرب الاقتصادية والمالية والاجتماعية.

فالاتحاد الأوروبي يعتبر أكبر شريك تجاري للمغرب. فهو أول زبون بتلقيه نسبة 64% من الصادرات المغربية سنة 2019. وأول مورد بنسبة تزيد عن 51% من السلع التي يستوردها المغرب من الخارج.

ويحقق المغرب نسبة 25% من مجموع التجارة التي يجريها الاتحاد الأوروبي مع دول الجوار الجنوبي، وبذلك فإنه يعتبر الشريك التجاري الأكبر للاتحاد على مستوى دول الجوار الجنوبي (الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، سوريا، لبنان، فلسطين، إسرائيل، الأردن).

وحسب تقرير لمفوضية الاتحاد الأوروبي، فإن المبادلات بين المغرب والاتحاد الأوروبي بلغت 35 مليار أورو خلال 2020، ويتكون هذا المبلغ من 15 مليار أورو من الصادرات المغربية نحو الاتحاد الأوروبي، و20 مليار أورو من صادرات الاتحاد نحو المغرب.

وإذا كان الدين الخارجي العمومي للمغرب قد بلغ 374,6 مليار درهم (أزيد من 42 مليار دولار) عند متم سنة 2020، فإن بعض المؤسسات الأوروبية، كالبنك الأوروبي للاستثمار، وبعض دول الاتحاد، تعتبر أكبر المقرضين للمغرب.

ففرنسا هي أول مقرض ثنائي للمغرب بحجم دين بلغ 33,5 مليار درهم، تليها ألمانيا بحجم دين بلغ 18,7 مليار درهم.

أما بنية الدين العمومي الخارجي للمغرب حسب العملات، فإن الأورو يحتل فيها الصدارة بنسبة 60,6 في المائة.

وفيما يتعلق بالمستثمرين الأجانب، فقد استقر الاستثمار المباشر الأجنبي في المغرب عند نهاية سنة 2020 في ما قدره 644,2 مليار درهم. وحسب تقرير لمكتب الصرف المغربي، فإن فرنسا استحوذت بمفردها على نسبة 31 في المائة من الاستثمارات المباشرة الأجنبية في المغرب سنة 2019، تليها إسبانيا بنسبة 28,8 في المائة، أي أن دولتين فقط من دول الاتحاد الأوروبي تستحوذان على ما يزيد عن 50 في المائة من الاستثمارات المباشرة الأجنبية في المغرب، وهذا مؤشر في حد ذاته يحمل دلالات كبيرة على مدى ارتباط نمو الاقتصاد في المغرب وبرامج التنمية فيه بعلاقته بدول الاتحاد.

وتوجد في المغرب العديد من الشركات الأوروبية، التي توظف عشرات الآلاف من المغاربة، تتقدمها الشركات الفرنسية والإسبانية.

ويفوق عدد الشركات الفرنسية المتواجدة في المغرب ألف شركة، في حين كان عددها سنة 2009 لا يتجاوز 500 شركة، وهو ما يعني تصاعد منحى الاستثمارات الفرنسية خلال العقد الأخير، وليس العكس.

ومعظم الشركات المدرجة ضمن الأربعين شركة المسجلة في البورصة الفرنسية لها حضور في المغرب، من بينها: شركة ’’رونو‘‘، وشركة ’’فرانس تليكوم‘‘ من خلال شركة ’’ميديتل‘‘، وشركة ’’PSA‘‘ المالكة لسيارات ’’بوجو‘‘ ’’وستروين‘‘ … بالإضافة إلى شركات أخرى، كشركة ’’دانون‘‘، وشركة ’’ألستوم‘‘، وشركات الإئتمان والتأمينات كـ ’’الشركة العامة‘‘ و ’’مصرف المغرب‘‘ و ’’أكسا‘‘… إلخ.

وتبلغ الطاقة الإنتاجية للسيارات في المغرب، 500 ألف سيارة في مصنعي “رونو” في طنجة والدار البيضاء، بينما تتجه “بيجو” نحو مضاعفة إنتاجها بالقنيطرة من 100 ألف إلى 200 ألف سيارة.

وتتصدر الشركات الفرنسية قطاع صناعة السيارات في المغرب. وتتمثل أهمية هذا القطاع، في كونه يُحدث قيمة تصديرية تتجاوز ضعفي تصدير الفوسفات، بالإضافة إلى عامل توطين الصناعة واكتساب الخبرة وتطوير أداء مدارس الهندسة المغربية.

وفي 10 فبراير/شباط 2021، بينما كان بعض الإعلام المحلي المغربي يتحدث عن توتر علاقات المغرب ببعض شركائه الأوروبيين، كانت المجموعة الفرنسية ’’لوبستون‘‘ في صدد افتتاح مصنع جديد لتصنيع أجزاء محركات الطيران بمنطقة ’’ميدبارك‘‘ بالدار البيضاء بتكلفة تصل إلى 6 ملايين دولار تقريبا في المرحلة الأولى.

ويرتبط المغرب بعلاقات قوية بالاتحاد الأوروبي بواسطة العدد الكبير من المغاربة المقيمين في دول الاتحاد.

فالجالية المغربية في الاتحاد الأوروبي تعتبر ثاني أكبر مجموعة بعد الجالية التركية، والأكثر عددا بالنسبة لــ ’’مغاربة العالم‘‘، بشكل عام، البالغ عددهم تقريبا نحو 5,8 مليون مغربي.

وتعد فرنسا المقصد الرئيسي للمهاجرين المغاربة، تليها إسبانيا، التي بلغ عدد المغاربة المقيمين فيها 811 ألفا و530 مغربيا حتى 31 دجنبر/كانون الأول 2020، وفق ما أعلنته وزارة الاندماج والضمان الاجتماعي والهجرة الإسبانية. هذا، بالإضافة إلى أعداد مهمة من المغاربة المقيمين بنسب متفاوتة في دول الاتحاد، كإطاليا، وبلجيكا، وهولندا، وألمانيا.

ولا يقف الأمر عند المغاربة الحاملين لبطائق الإقامة في دول الاتحاد، حيث يضاف إليهم حاملو جنسية الدول المستضيفة، والعمال المؤقتون، والطلبة، وبعثات التكوين الدراسي والمهني.

ويضطلع ’’مغاربة العالم‘‘ بدور اقتصادي بالغ الأهمية، حيث تمثل تحويلاتهم المالية نحو المغرب 10 في المائة من الناتج المحلي الخام، و 13 في المائة من إجمالي الودائع لدى البنوك المغربية، والمصدر الرئيسي لاحتياطات المغرب من العملة الأجنبية.

وإذا كانت المعطيات المعروضة تفيد أهمية كتلة الاتحاد الأوروبي بالنسبة للمغرب، فإن أهمية هذا الأخير بالنسبة لدول الاتحاد، لا يمكن تجاوزها، لا سيما بالنسبة لفرنسا وإسبانيا.

فالمغرب، هو منصة أوروبا نحو إفريقيا بفضل موقعه الجغرافي المميز، وهو مجال جاذب للاستثمار بما يتوفر عليه من موارد بشرية وطبيعية وعوامل سياسية تجعله ينفرد بخصائص تميزه عن محيطه الإقليمي. فضلا عن أنه يمثل شريكا استراتيجيا في صياغة السياسات الأمنية وتنفيذها.

العلاقات الأمريكية المغربية

علاقات الرباط بواشنطن علاقات قديمة، لا سيما فيما يتعلق بشقها الأمني. فالمغرب، منذ حصوله على الاستقلال، مال إلى معسكر الحلف الأطلسي، وإلى معسكر الولايات المتحدة على وجه التحديد، وساهم في تقليص نفوذ المعسكر الشرقي في إفريقيا والشرق الأوسط بتعاون مع واشنطن وحلفائها، في مقابل علاقات طبعها الفتور والتباعد بين موسكو والرباط طوال الحرب الباردة.

وقد تطورت هذه العلاقات إلى حد إبرام الرباط وواشنطن سنة 1983  اتفاقية تتعلق بالتعاون في أبحاث من أجل إنشاء مفاعل لأغراض مدنية في المغرب.

ثم تعمقت العلاقات بشكل أكبر عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وانخراط الرباط بشكل مكثف في الحرب التي أعلنتها واشنطن في عهد الرئيس بوش الابن ضد ’’الإرهاب‘‘.

وفي سنة 2004، صنّفت الولايات المتحدة الأمريكية المغرب كـ ’’حليف رئيسي خارج الناتو‘‘، وهو الوضع الذي لم تعترف به واشنطن إلا لـ 16 دولة لا تنتمي للناتو منذ أن مُنح لأستراليا ومصر وإسرائيل واليابان وكوريا  الجنوبية سنة 1989، وصولا إلى تونس في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما سنة 2015.

وازدادت أهمية المغرب بالنسبة لواشنطن مع إعلان ظهور ’’القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي‘‘ سنة 2006 الناشئة عن ’’الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية‘‘. فشكل الحدث إلى جانب بعض العمليات التي كانت تقوم بها بعض الجماعات في منطقة الصحراء الأفريقية مدخلا لتسريع تفعيل مبادرة الساحل والصحراء المُتَبَنّاة من طرف الإدارة الأمريكية سنة 2002. ليُستتبع ذلك سنة 2007 بإعلان تأسيس القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا المعروفة باسم أفريكوم المتواجد مقرها في أوروبا بمدينة شتوتغارت الألمانية.

وقد تداولت العديد من التقارير الإعلامية عند تأسيس أفريكوم أن المغرب يعتبر المرشح الأول لاستضافة قاعدة أفريكوم في جنوب طانطان، نظرا للموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة ولعلاقات المغرب المتينة بأمريكا. غير أن الرباط نفت  حينها تلك الأخبار بشكل رسمي.

وتعتبر ’’مناورات الأسد الإفريقي‘‘، وجها من أوجه أنشطة أفريكوم، وهي مناورات عسكرية مشتركة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية مع دول أخرى تجرى في إطار التعاون العسكري، انطلق العمل بها منذ سنة 2007  بهدف تطوير المهارات الميدانية والقتالية للقوات المشاركة.

وفي يونيو/حزيران 2021، اختُتمت النسخة 17 من “مناورات الأسد الإفريقي” بمشاركة 9 دول، وقد أجريت لأول مرة في منطقة الصحراء، حسب بيان أصدرته أركان الحرب العامة للجيش المغربي أعلنت فيه أن إجراء المناورات يشمل مناطق أغادير وطانطان وتافراوت والمحبس ، فضلا عن تيفنيت وبن جرير والقنيطرة.

ويشارك المغرب سنويا في أكثر من 100 عملية عسكرية أمريكية، بما في ذلك مناورات الأسد الإفريقي، حسب ما سبق وأن صرح به مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، خلال زيارته للرباط في أكتوبر/تشرين الأول 2020.

وتُوّجت العلاقات العسكرية بين المغرب والولايات المتحدة بتوقيع الطرفين في أكتوبر/تشرين الأول 2020 على اتفاقية لتعزيز التعاون العسكري لمدة 10 سنوات، وذلك خلال زيارة وزير الدفاع مارك إسبر للمغرب، حيث تم الاتفاق على خارطة طريق ثنائية للتعاون في مجال الدفاع وتحديث الصناعات العسكرية للمغرب؛ وقد وصف الوزير الأمريكي الاتفاقية بأنها  “ستفتح أبواب التعاون الثلاثي بين المغرب وأمريكا والدول الإفريقية”، مستدلا على ذلك بمناورات الأسد الإفريقي.

ثم جاءت اللحظة الفارقة في تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، عندما أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العاشر من دجنبر/كانون الأول 2020 قرارا رئاسيا يقضي باعتراف واشنطن  بسيادة المملكة المغربية الكاملة على كافة منطقة الصحراء. وقد تزامن ذلك مع إعلان الديوان الملكي المغربي استئناف الاتصالات الرسمية والعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.

إن العاشر من دجنبر/كانون الأول 2020 يُعد، حسب العديد من التحليلات، يوما فاصلا في سياسة المغرب الخارجية، ومدخلا جديدا على مستوى التوازنات الإقليمية في شمال إفريقيا والعلاقات الدبلوماسية. لكن ما يجب التذكير به، أن هذه اللحظة لم تأت من فراغ، وإنما مُهِّد لها منذ فترة طويلة، وهي تأتي كذلك، لتعزيز التواجد الأمريكي في إفريقيا بلا منازع؛ هذا التواجد المتجسد في العلاقات الاقتصادية الأمريكية الإفريقية والمدعَّم عمليا بحضور عسكري أمريكي في القارة السمراء عن طريق القيادة المركزية للولايات المتحدة التي يشمل اختصاصها مصر والسودان وإريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال وكينيا وسيشل، والقيادة العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ الهندي التي تغطي مدغشقر والمحيط الهندي، ثم أفريكوم التي تشمل باقي الدول الإفريقية.

وإذا كانت العلاقات العسكرية الأمريكية المغربية تتميز بقوتها وعمقها، فإن الوضع في المجال التجاري بصفة عامة بين الدولتين ما زال لم يصل بعْدُ إلى المستوى المطلوب.

فالمبادلات التجارية بين المغرب والولايات المتحدة، ظلت منخفضة، لتعرف تحسنا تدريجيا بعد إبرام اتفاقية التبادل الحر بين الدولتين في 15 يونيو/حزيران 2004 ودخولها حيز التنفيذ في فاتح يناير/كانون الثاني 2006. عِلماً أن للولايات المتحدة اتفاقيات للتبادل الحر مع 20 دولة، يعتبر المغرب الوحيد من ضمنها في مجموع القارة الإفريقية.

وفي سنة 2019 بلغ حجم التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والمغرب 5 مليارات دولار، ليتراجع إلى 3,3 مليار دولار سنة 2020، بسبب تأثيرات انتشار وباء كورونا، حيث توزع بنسبة 2,3 مليار دولار شكلتها الصادرات الأمريكية إلى المغرب و 1,4 مليار دولار صادرات المغرب إلى الولايات المتحدة.

وتتواجد في المغرب حوالي 150 مقاولة أمريكية يندرج معظمها في إطار الاستثمار في القطاعات الصناعية.

وبلغت نسبة الاستثمارات الأمريكية  5,5 في المائة من مجموع الاستثمار المباشر الأجنبي في المغرب خلال سنة 2019، حسب تقرير لمكتب الصرف المغربي.

وتبدو الأرقام المسجلة في مجالي الاستثمار والتبادل التجاري بين المغرب والولايات المتحدة بعيدة إلى حدود الآن عن تلك المسجلة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، لا سيما مع بعض دوله، كفرنسا وإسبانيا.

وبالتالي، يُسْتَنتج أنه في الوقت الراهن، ما يزال الاقتصاد المغربي مرتبطا بقوة بالاتحاد الأوروبي، لا تضاهيه في ذلك شراكات اقتصادية أخرى.

غير أن مستقبل العلاقات الاقتصادية المغربية الأمريكية حمّالٌ لتغييرات كبيرة قد تحدث خلال العقدين القادمين، لا سيما إذا نُظر إليها من حيث تفرعات العلاقات العسكرية وما يرتبط بها من صناعات واستثمارات ذات صلة، وكذا من حيث طبيعة اتفاقية التبادل الحر المبرمة بين البلدين المتميزة بطابعها الشمولي الذي يغطي الجوانب التجارية المتعلقة بكل من السلع الزراعية والصناعية وتجارة الخدمات، بالإضافة إلى الجوانب المتعلقة بالشغل والسياسة والبيئة والأسواق العمومية وحقوق الملكية الفكرية. ثم إن المغرب يقدم نفسه كمنصة استراتيجية نحو إفريقيا .. منصة، منفردة بمزاياها وخصائصها ومواردها ووضعها السياسي  على نحو يجعل من المغرب إقليما مستقطبا للاستثمارات الأمريكية في ظل علاقات دبلوماسية تتطور بشكل متسارع نحو مزيد من التوافقات بشأن القضايا الدولية والإقليمية.

قطيعة .. أم سياسة انفتاح بوصلتها ’’الصحراء‘‘؟

إن الحديث عن اتجاه المغرب نحو قطيعة مع الاتحاد الأوروبي، أو فك ارتباطاته الاقتصادية معه، هو حديث ظرفي تنقصه الدلائل ولا توافقه المعطيات، وتقدمه بعض المنصات الإعلامية للاستهلاك المحلي فقط.

وما يقال حاليا بشأن وضع علاقات المغرب بالاتحاد الأوروبي، سبق وأن قيل في محطة سابقة وفي ظروف مشابهة لما يجري اليوم.

ففي فبراير/شباط 2016، أعلنت الرباط وقف الاتصال مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بسبب إصدار المحكمة الأوروبية قرارا يقضي  بالإلغاء الجزئي للاتفاقية المتعلقة بالمنتجات الزراعية والسمكية لاحتوائها منتجات منشؤها منطقة الصحراء. لكن الأمور ما لبثت أن عادت إلى وضعها الطبيعي بعد أن قررت محكمة العدل الأوروبية إلغاء قرار المحكمة الأوروبية في دجنبر/كانون الأول من نفس السنة.

كما أن علاقة الرباط بواشنطن شابها نوع من التردي والتوتر في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، عندما أرادت الإدارة الأمريكية سنة 2014 توسيع مهام بعثة المينورسو في الصحراء لتشمل مجال حقوق الإنسان، أو عندما أصدرت الخارجية الأمريكية في مايو/أيار 2016 تقريرها السنوي الذي انتقدت فيه بشدة أوضاع حقوق الإنسان في المغرب.

حينها، ذهب البعض إلى إعطاء الزيارتين اللتين قام بهما الملك محمد السادس إلى موسكو (مارس/آذار 2016) ثم إلى بكين (12 مايو/أيار 2016) أبعادا  تتعدى مُحتوَيْهما، وتم تفسيرهما حسب بعض التقارير الإعلامية بأنهما تؤشران إلى انخراط المغرب في محور جديد في ظل التوتر الذي كان يسود علاقة المغرب بواشنطن وبروكسل .. لكن الأمر، في حقيقته، لم يُعبِّر سوى عن رغبة المغرب في تنويع شراكاته الاقتصادية وكسب التأييد لقضية وحدته الترابية في حدود المتاح. وهي لا تعدو نفس الرغبة التي عبّرت عنها الرباط عند إبرام اتفاقية أكادير مع بعض الدول العربية لإزالة جميع التعريفات الجمركية على التجارة فيما بينها، أو إبرام اتفاقية التبادل التجاري الحر مع تركيا، أو الاتجاه نحو شراكات اقتصادية مغربية إفريقية، أو توقيع اتفاقيات تعاون مع الهند ورابطة دول جنوب شرق آسيا… وصولا إلى السعي نحو تعزيز علاقات الشراكة مع منظمة فيسغراد التي تضم أربع دول تنتمي لمنطقة وسط أوروبا، هي هنغاريا، بولونيا، التشيك وسلوفاكيا .. فالمقصود في هذا السياق، هو الزيادة في عدد الشراكات الدولية، وليس تقليصها.

فتعزيز العلاقات مع واشنطن، إذن، لا يعني في أية حال من الأحوال الابتعاد عن بروكسل، وذلك بالنظر إلى الاعتبارات التاريخية والاقتصادية والجيوسياسية القائمة بين الرباط ودول الاتحاد. وما يريده المغرب اليوم، هو تحسين مركزه في علاقاته مع شركائه التقليديين.

بل ثمة مؤشرات تدل على أن العلاقات بين المغرب والاتحاد تسير في اتجاه التطور، وذلك وفق العديد من الإشارات والتصريحات التي بعث بها طرفا العلاقة في عدة مناسبات.

ففي شتنبر/أيلول 2021 تبنت منظمة أرباب الأعمال الأوروبية والاتحاد العام لمقاولات المغرب والغرفة الأوروبية للتجارة والصناعة بالمغرب ’’ميثاق تحديث التجارة والاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المغربية‘‘. وفي نونبر/تشرين الثاني 2021، أكد الوزير المنتدب المكلف بالتجارة الخارجية، فرانك ريستر، خلال زياته للمغرب، رغبة فرنسا في استقبال مزيد من المسثمرين المغاربة، وأشار كذلك، إلى أن الحكومة الفرنسية في صدد التفكير في نقل جزء من سلاسل التوريد والإنتاج من مناطق بعيدة عن أوروبا إلى بلدان مجاورة، لا سيما المغرب. وفي السابع من دجنبر/كانون الأول 2021، وقع المغرب والوكالة الفرنسية للتنمية، بالرباط، اتفاقيتي تمويل بمبلغ إجمالي بقيمة 200 مليون يورو (حوالي 2 مليار درهم)، لدعم مشروعين يتعلقان بالحماية الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. وفي الثالث عشر من دجنبر/كانون الأول 2021، ورد في بيان للوزارة الفيدرالية الألمانية للشؤون الخارجية، أن مخطط الحكم الذاتي يشكل ’’مساهمة مهمة‘‘ للمغرب في تسوية النزاع في ملف الصحراء، ليبعث بعد ذلك رئيس ألمانيا فرانك فالتر شتاينماير في يناير/كانون الثاني 2022 رسالة إلى الملك محمد السادس اعتبر فيها  مخطط الحكم الذاتي الذي قُدم سنة 2007 بمثابة ’’جهود جادة وذات مصداقية من قبل المغرب‘‘ داعيا الملك المغربي للقيام بـ ’’زيارة دولة‘‘ إلى ألمانيا. كما وقع المغرب والبرتغال، في نفس الشهر اتفاقية حول إقامة العمال المغاربة وعملهم في البرتغال بهدف ’’الاستجابة للطلب المتزايد على العمال المغاربة، للاستفادة من فرص العمل المتاحة على مستوى النسيج الاقتصادي البرتغالي‘‘، حسب ما ورد في بيان مشترك بعد توقيع الاتفاقية. وفي الثاني عشر من يناير/كانون الثاني وصل إلى ميناء الجزيرة الخضراء، فوج أول مكون من 830 عاملة موسمية مغربية من مجموع أزيد من 12 ألف عاملة من المقرر أن يتجهن للعمل في حقول الفواكه الحمراء الواقعة جنوب إسبانيا…

أما من الجانب المغربي، فقد كان مهما ما أدلى به وزير الشؤون الخارجية، ناصر بوريطة، أثناء تقديمه في البرلمان مشروع ميزانية الوزارة لسنة 2022، حيث قال إن ’’علاقات المملكة مع الدول الأوروبية شهدت خلال سنة 2021، تطورا لافتا‘‘، وأوضح أن ’’اتصالات المملكة مع الشركاء الأوروبيين خلال عام 2021، مكنت من إعادة تقييم شامل للعلاقات الثنائية مع جل الدول الأوروبية، استعدادا لمرحلة ما بعد الجائحة‘‘. وأضاف أن: “المملكة المغربية حافظت بشكل إيجابي، على مبادلاتها التجارية مع مختلف شركائها الأوروبيين، مراهنة في ذلك على الثقة التي تتمتع بها كشريك اقتصادي متميز للاتحاد الأوروبي‘‘.

****

إن السياسة الخارجية المغربية تميزت منذ عقود بالمرونة والنأي عن التصادم. لكن هذه السياسة، كغيرها من السياسات العمومية، لها محدداتها ومُوَجّهاتها. والبوصلة الرئيسية للسياسة المغربية الخارجية هي ’’ملف الصحراء‘‘. وقد كان خطاب الملك المغربي محمد السادس الذي ألقاه بمناسبة حلول الذكرى السادسة والأربعين للمسيرة الخضراء في نونبر/تشرين الثاني 2021 صريحا وواضحا فيما يتعلق بهذه المسألة. ولعل أبرز ما جاء في ذلك الخطاب فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده، ما أعلنه الملك عندما قال: ’’نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة  بأن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية‘‘، مضيفا: ’’من حقنا اليوم، أن ننتظر من شركائنا، مواقف أكثر جرأة ووضوحا، بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة‘‘.

ومن دلالات هذا الكلام، أن الضغوط الممارسة من طرف بعض الدول والمنظمات على المغرب بآليات قانونية أو بأدوات إقليمية، لن تمنعه من مواصلة تشكيل شراكات استراتيجية جديدة خارج النطاق التقليدي الذي كانت تهيمن عليه بعض الدول الأوروبية وتتمتع في إطاره بامتيازات تفضيلية.

أما المُوَجِّه الثاني للسياسة الخارجية المغربية، فله علاقة بوضعية ميزان القوى الدولية. فالمغرب يعي الصراع القائم بين القوى الكبرى حول المواقع والموارد، ويحاول أن يكون معتدلا في اصطفافاته، إلا أنه يجد نفسه في بعض الحالات مضطرا لتبني مواقف تقتضيها بعض الأوضاع القائمة أو غلبة موازين بعض القوى.

(المصدر: الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X