بعد الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية .. بكين تسعى لمواجهة واشنطن داخل مناطق نفوذها الكلاسيكية

يمثل الاتفاق السعودي الإيراني الذي أُعلن عنه من بكين في 10 مارس/آذار 2023 أهم اختراق تحدثه الصين في الشرق الأوسط، الذي طالما وُصف بأنه منطقة نفوذ خالصة لأمريكا. وأهمية الاتفاق تكمن في أنه لا يقتصر على إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية، إنما يتعدى ذلك ليطال المجالات الأمنية والاقتصادية.

فالسعوديون والإيرانيون اتفقوا على إعادة فتح سفارتيْ بلديهما المغلقتين منذ 2016 في غضون شهرين بعد تاريخ إبرام الاتفاق. كما اتفقوا على إعادة العمل باتفاقية التعاون الأمني الموقعة سنة 2001، وتفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقعة سنة 1998.

ورغم أن السعودية تؤكد أن اقترابها من الصين لن يكون على حساب علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فثمة مؤشرات تدل على أن العلاقات بين الرياض وبكين تسير نحو التطور بينما تتراجع العلاقات السعودية الأمريكية بالتدريج.

ولا بد من التذكير في هذا الصدد، أن واشنطن ستكون الخاسر الأكبر إذا ما تم تفعيل الاتفاق السعودي الإيراني على أرض الواقع بوساطة صينية. ذلك أن الاتفاق من شأنه أن يدفع دولا عربية حليفة للرياض للنظر في إعادة تطبيع علاقاتها مع طهران، وسيؤدي إلى تعزيز العلاقات الصينية العربية بشكل عام.

ومن شأن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، أن يسحب من واشنطن ورقة حماية السعودية من التهديد ’’الفارسي‘‘، وهي الورقة التي لطالما وظفتها الإدارة الأمريكية للضغط على الرياض والحصول بواسطتها على كميات ضخمة من الأموال السعودية.

وفي هذا السياق، يُنْظّرُ إلى تخفيض السعودية إنفاقها العسكري في سنة 2022، أنه كان مقدمة للإعلان عن نيتها تقليص تدخلاتها العسكرية في اليمن والوصول إلى تفاهمات مع طهران وتجنّب كل ما من شأنه استنزاف ميزانيتها، والاتجاه بدل ذلك نحو تركيز الجهود على برنامج الرؤية الاقتصادية 2030.

لا تخفي الصين عزمها إحداث تغييرات على النظام المالي الدولي وتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب بشراكة مع عدة دول في مقدمتها روسيا. وهي في مسعاها هذا تحاول إقناع العديد من الدول بالتعامل باليوان الصيني في التعاملات التجارية، كما أنها حثت السعودية وإيران ودول الخليج على الاستفادة الكاملة من بورصة شنغهاي للنفط والغاز الطبيعي لتسوية معاملات النفط والغاز باليوان (بترويوان). ومع إمكانية زيادة أعضاء دول “البريكس”، فإن وتيرة عملية الاستغناء عن الدولار الأمريكي مرشحة للارتفاع في المعاملات التجارية الدولية، ما سيؤدي إلى تقليص النفوذ الأمريكي ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب وإنما في عدة مناطق في العالم.

وقد كانت لافتة المناورات العسكرية المشتركة بين أساطيل الصين وروسيا وإيران في خليج عمان ما بين 15و19 مارس/آذار 2023، حيث ذهب البعض إلى اعتبارها أنها إعلان صريح من طرف بكين بأن حضورها في المنطقة لم يعد ينحصر على المجالين الديبلوماسي والاقتصادي وإنما أضحى يتعداه إلى المجال العسكري، مشكلا بذلك تحدّيا واضحا للنفوذ الأمريكي في منطقة الخليج.

إن انخراط الصين في ملفات الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الملف السعودي الإيراني وعلاقته بالحرب في اليمن، لا يصح النظر إليه على أنه مجرد نشاط دبلوماسي من طرف بكين، بل إن الأمر يتعدى ذلك، ويمكن اعتباره أنه ضرورة قصوى لتأمين المصالح الاستراتيجية الاقتصادية الصينية.

فالصين هي الشريك التجاري الأول للمنطقة، وتستورد ثلثي حاجياتها النفطية من دول الخليج وإيران والعراق، وبالتالي فإن جزءا كبيرا من اقتصادها يكون مرهونا باستقرار منطقة الخليج، وأن أي حرب شاملة في المنطقة معناه حرمان ثاني اقتصاد في العالم من ثلثي الإمدادات النفطية التي يحتاجها ومن الموارد المحققة على مستوى العلاقات التجارية.

كما أن تدخل الصين في الشرق الأوسط يأتي في سياق تقوية حضورها في منطقة حساسة تتواجد على طريق الحرير البحري. ذلك أن مضيق باب المندب يقع على هذا الطريق. وإقامة بكين في وقت سابق لأول قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في جيبوتي المطلة على المضيق من الضفة الغربية إنما يأتي في هذا السياق العام.

إن حرب المضائق والممرات البحرية التي تشنها واشنطن على بكين في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الغربي ومضيق ملقة (الواقع بين سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا)، تدفع الصين لتكثيف تحركاتها بهدف تعزيز حضورها في منطقة الشرق الأوسط ومضائقها وممراتها البحرية بهدف إضعاف طوق الأساطيل الأمريكية وحلفائها وجعله دون كبير أثر؛ ويبدو أن بكين عازمة على السير في هذا الاتجاه حتى لو تطلب الأمر مواجهة واشنطن داخل مناطق نفوذها الكلاسيكية.

(سعيد منصفي التمسماني/وكالات)

 

X