الفهرس 

الكاتب: د. مصطفى أمزير      

أتذكر مع بداية الثمانينيات أنني حضرتُ لقاء ثقافيا أُستدعي إليه المرحوم الدكتور “محمد عابد الجابري‘‘ احتفاءً بكتابه الجديد آنذاك (نحن والتراث).. لم يبق في ذهني عالقا من ذاك اللقاء سوى أمريْن: الأول حجم الحضور الذي كان كبيرا لدرجة أن الكثير منا قد تابع اللقاء جالسا على الأرض بين صفوف المقاعد .. والثاني حكاية رواها لنا الدكتور الجابري ليضعنا من خلالها داخل السياق الذي ولد لديه الاهتمام بموضوع التراث والكتابة فيه..      

حَكى الجابري أنه في أواسط السبعينيات، كان قد أُرسل في وفد من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى لبنان لإبراز دعم اليسار المغربي المعنوي لقوى اليسار اللبناني في الحرب الأهلية. يذكر الجابري أنه حضر لقاء تقييميا لمجريات الحرب داخل مقر الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان يضم بين أعضائه أفرادا ينحدرون من أصول طائفية مختلفة، وكان من المفترض أن يكون الفكر الماركسي قد أذابها في بوتقته الأيديولوجية التقدمية .. يروي الجابري، وهم على مائدة مستديرة، أن ماركسيا قياديا من أصول مسيحية أخذ الكلمة وبدأ يُقيّم الوضع إلى أن انعطف نحو الجنوب الشيعي، منتقدا سلبية الشيعة وعدم انخراطهم الحاسم في أجواء الصراع .. إلى أن قاده الانفعال لسب العقيدة المهدوية الإمامية التي أشاعت، في رأيه، داخل الطائفة  قيم السكــون  والانتظارية .. وفي هذه اللحظة، يحكي الجابري، لم يشعر ذاك المسكين إلا بزميل له، ماركسي قيادي(من أصول شيعية) كان يجلس بجواره، وقد غمره بجسده الضخم لكْماَ ورفساَ وسبّا..!      

شكلت هذه الواقعة صدمة وجدانية عنيفة للجابري .. قادته إلى طرح أسئلة عميقة لها علاقة بالهوية التي تسكننا، من مثل: ما الذي أفاق في ذاك القيادي الماركسي (الملحد ربما) شعوره بالانتماء إلى المذهب؟ وهل بمقدورنا الانفكاك عن تراثنا؟ وهل بمستطاع النخبة (العلمانية الليبرالية أو الماركسية) تحريك الشعوب بخطاب لا يتجانس مع معتقدها ؟.. هذه الأسئلة الكبيرة هي التي ولدت كتاب “نحن والتراث‘‘ ،وولدت رؤية الجابري لمفهوم الحداثة الذي تجاوز طرح صِنوه الماركسي الدكتور عبد الله العروي في ” نظرية التاريخانية‘‘. وهذه الأسئلة نفسها هي التي انتهت بكثير من الماركسيين العرب في تلك المرحلة إلى حضن الثقافة الإسلامية من أمثال محمد عمارة، ومنير شفيق، وعادل حسين، وروجي عساف..     

وعلى الرغم من وضوح الدرس فإن كثيرا ممن يصنفون أنفسهم ضمن التيار” الحداثي المتنور‘‘ ما زالوا لم يستوعبوه، وما زلنا نقرأ لهم عن الإحباط الذي يحاصرهم من الشعوب العربية الإسلامية جراء انحيازها إلى الخطاب الديني وإلى من يستثمر في مخيالها الرمزي ” الماضوي‘‘ .. فاللاوعي الجماعي الموروث الذي يشتغل في ذوات هذه الشعوب والذي يظهر، بين الفينة والأخرى، في الأجواء العامة وفي الأزمات والمنعطفات الحاسمة كما في رمضان والحج و الأعياد الدينية ، وفي مشاعر الناس وهي تتضامن مع مسلمي الصين مثلا رغم اختلاف اللون والعرق واللغة .. و في فرحة المغاربة لفوز الجزائر بكأس إفريقيا رغم العداء السياسي الظاهر بين دولتيهما .. وفي الاستجابة لمبادرات التضامن مع الفقراء في محنة كورونا .. كل ذلك يُشعر بأن خطاب النخبة “المتعالم‘‘ في واد ووجدان الأمة في واد آخر.. بالشكل الذي يستدعي حكاية الجابري المنطلق. 

“القنديل ‘‘  و “نزار ‘‘  و ” فتافيت شاعر‘‘      

يقينا أننا وقفنا على صورة هذا المثقف العربي النخبوي المتعالي المفصول عن ثقافة الجماهير العاجز عن تحريكها بوعيه الوافد في كثير من الأعمال الإبداعية، كما يمكن أن نطالعها على سبيل المثال، في رواية “قنديل أم هاشم‘‘ ليحيى حقي، من خلال صورة “إسماعيل‘‘ بطل الرواية؛ الطبيب الذي راعه وضع المصريين المتخلف حينما عاد إلى القاهرة بعد رحلة دراسية طويلة في الغرب، محمّلا بكثير من مشاعر الانشداه بحياة إفرنجة الحديثة؛ يصف الراوي ما كان يحسه البطل، من هول الشعور بالاغتراب الثقافي، وهو يطل “من عالٍ‘‘ على مشهدٍ لأهالي القاهرة في ميدان ضريح “الست زينب‘‘: “أشرف على الميدان فإذا به يموج كدأبه بخلقٍ غفير، ضُربت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذلّ. ليست هذه كائنات حيّة تعيش في عصر تَحَرَّكَ فيه الجماد.هذه الجموع آثارٌ خاويةٌ محطَّمةٌ كأعقاب الأعمدة الخَرِبَةِ ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر(…) يتطلّع إلى الوجوه فلا يرى إلا آثار استغراق في النوم كأنهم جميعا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني. هؤلاء المصريون: جنس سمج ثرثار، أقرع أرمد، عارٍ حافٍ، بوله دم، وبرازه ديدان، يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه.    

لكن تعالي هذا المثقف المتعالم، سيتكسر ، في دلالةٍ رمزيةٍ عميقة شبيهة بعمق مشروع الجابري في كتابه نحن والتراث، حينما سيفشل في مداواة عين ابنة عمه فاطمة بعلمه( الناشف) المسترفد من الآخر. ولا ينجح إلا حينما يكتشف “خلطة‘‘ مبتكرة تمزج بين ” الدواء‘‘ المستورد و” زيت القنديل‘‘ المحلي المبارك.       

قد يصل بالبعض شعور التعالي حد الانحراف حينما يجعل المثقف من نفسه شيئا آخر غير هذه الأمة، وبدل أن يعمل بصبر وأناة على الرفع بمعرفته من نظرتها إلى الحياة، عوض ذلك ينأى بنفسه عنها ويقابلها بالازدراء والاحتقار. نلمس هذا المزاج بوضوح لدى أكثر من شاعر معاصر على نحو ما لاحظه الناقد جهاد فاضل في كتابه “فتافيت شاعر‘‘ حينما كان بصدد تحليل ديوان “قصائد مغضوب عليها‘‘ للمرحوم نزار قباني على سبيل المثال؛ فقد أفزعه ما وجده داخل هذا الديوان من معجم هجائي محمَّل بقدر كبير من القسوة، والعنف، والسخرية وهو يصف أوضاع أمتنا العربية. كما في هذه النماذج من الديوان: 

– من عهد فرعون إلى أيامنا

هناك حاكم بأمره

وأمة تبول على نفسها كالماشية

نركض كالكلاب كل ليلة

من عدن لطنجة ،ومن طنجة إلى عدن

– ليس هذا الوطن السادي.. والفاشي

والشحَّاذُ.. والنفطي

والفنان.. والأمي

والثوريُّ..والرَجْعيُّ

والصّوفي..والجنسيُّ

والشيطانُ..والنّبيُّ

والفقيه، والحكيمُ،والإمامْ

هو الذي كان لنا في سالف الأيّامْ

حديقةَ الأحلامْ

     نعم نحن ندرك أن في كثير من تفاصيل هذه الصورة المنحطة للشعوب العربية صدقا فنيا ،لكن السؤال حول الوظيفة التي من المفترض أن يتلبسها الفنان وهو يتناول موضوعه الجمالي: فمثل هذه النصوص لا تكتفي بتسجيل الواقع فقط لفضحه، وإنما تتجاوزه بالمساهمة في جلد ظهر الأمة المغلوبة على أمرها ،المُدْمَى أصلا بسياط التخلف والأمية والتجهيل…فهل دور الفنان- يقول جهاد فاضل مسائلا نزار- هجاء الأمة وتدمير روح المقاومة فيها،أم على العكس إشاعة التفاؤل والوعد بالتغيير من خلال الاستثمار في جمالية الفن وقوة تأثيره الوجداني من أجل الرفع من منسوب الوعي، والدفع بهذه الشعوب نحو التحول الإيجابي المنشود؟ “فهل ينبغي للشعر أن يُحيي أم يُميت”؟ يختم جهاد فاضل.

X