الصراع الدولي حول رقعة أوكرانيا صراع حول مستقبل هذا الكوكب من أقصاه إلى أقصاه!
بقلم: د. مصطفى أمزير
يُحكى أن ملك الهند (شرهام) أراد مكافأة مخترع لعبة الشطرنج (سيسا بن ظاهر) الذي لم يطلب من ملكه، المصر على إكرامه، سوى مكافأة بسيطة في ظاهرها: «مُر لي يا مولاي بحبة قمح توضع على المربع الأول من رقعة الشطرنج، وبحبتين على المربع الثاني، وأربع حبّات على الثالث، وثمانية على الرابع، وهكذا. بمضاعفة العدد لكل مربع تالٍ، بالشكل الذي يكفي لتغطية مربعات الرقعة الأربعة والستين». فاستخف الملك بالطلب، لكن كبير علماء الرياضيات في القصر أوضح للملك أن محصول الهند من القمح، بل محصول العالم بأكمله لألفي سنة، لا يفي طلب “سيسا ” الماكر!
هكذا تبدو مواقف أطراف الصراع الدولي على رقعة أوكرانيا وهي تحرك “بيادقها” بنقلات بسيطة في ظاهرها، بعيدة بمراميها، فالصراع في عمقه أوسع من كل مساحة أوكرانيا ال600 ألف كيلو مربع! إنه صراع حول مستقبل هذا الكوكب من أقصاه إلى أقصاه! فخلف الصورة هناك طريق الحرير الصيني، وهناك صراع التابع والمتبوع الأورو-أمريكي، وهناك الطموح الروسي في العودة إلى التأثير في التدبير الاستراتيجي للعالم، الذي استأثرت به الولايات المتحدة عقب سقوط الاتحاد السوفييتي.
أوكرانيا وبيان الوحدة الروسي الصيني
سبق لأمريكا في حقبة الاتحاد السوفييتي أن واجهت تقارب الصين والاتحاد في سياق محاربة المد الشيوعي. وقد نجحت فعلا في تحييد الصين بالشكل الذي أضعف السوفييت وأودى بهزيمتهم في النهاية. والآن تعيش أمريكا نفس الموقف: فهي تخشى قوة الصين وتلاحظ تقاربها المتنامي مع روسيا، وهي تريد إفساد هذا التقارب لعزل الصين وإضعافها. لذلك فقد حاولت،في العشر السنوات الأخيرة، إرضاء روسيا باستغلال وضعها المالي غير المُطَمئِن، وذلك بإشراكها في بعض الملفات الساخنة لتقتات على منافعها الاقتصادية؛ فقد سمحت واشنطن لروسيا أن تتدخل إلى جانبها في سوريا عام 2015، وفي مالي تحت أنظار “أفريكوم” لحماية الانقلاب العسكري ضد النفوذ الفرنسي. وسمحت لها بإقامة علاقات اقتصادية كبيرة مع حلفائها التقليديين، بالشكل الذي مكنها من بيع أسلحة بمليارات الدولارات للإمارات، والسعودية، ومصر، وتركيا، وليبيا (طبرق)…كما أن أمريكا لم تعترض جديا على دخول “الجيش الروسي” لمساندة “مادورو” في فنزويلا، وتجاهلت، عمدا، مبدأ مونرو الذي يحرم على القوى الأوروبية التدخل في أي دولة من دول أمريكا الجنوبيةباعتباره عملاً عدوانياً ضد الولايات المتحدة. سامحة للروس بإتمام صفقة بيع صواريخ أرض-جو المتطورة من طراز S-300 للقوات الفنزويلية التي تعتمد في تسليحها على المعدات الروسية منذ عام 2001. كما أن الولايات المتحدة جمدت، لسنوات طوال، تحرشها بروسيا في ملفات أوكراني والقوقاز…
من جهتها تبدو الصين واعية جدا بأبعاد السياسة الأمريكية تجاه روسيا، لذلك فهي تحاول منذ مدة تقديم عروض اقتصادية أقوى إغراءً. ظهر ذلك جليا في المنتدى الاقتصادي الدولي الذي عُقد قبل خمس سنوات بمدينة سان بطرسبورغ الروسية؛ فقد كشف الرئيس الصيني شيجين بيغ حينها عن خطوات واعدة في تكامل العمل بين الصين وروسيا عبر دمج مشروعي «طريق الحرير» و«التحالف الاقتصادي الأوراسي في مشروع واحد عظيم. كما أعلن الطرفان، وقتذاك، عن إحداث صندوق مشترك للاستثمار مُقيّم باليوان لكسر هيمنة الدولار الأميركي، بل والتخلّي عنه في التعاملات البينية. فيما وقعت شركة هواوي الصينية على عقد لإدخال شبكة جي 5 إلى روسيا، وإنشاء صندوق مشترك للابتكار العلمي والتسويق الإلكتروني. أما في مجال الطاقة، فقد اتفق الطرفان على مشاريع كبيرة تهم الطاقة النووية، ومشاريع جديدة لتسويق الغاز الروسي إلى الصين، والتعاون المشترك لتطويرمنشأة للغاز الطبيعي في القطب الشمالي. فيما سمحت روسيا للصين بفتح ممر للسكك الحديدية لنقل البضائع الصينية إلى أوروبا مباشرةً. ليتوج هذا التعاون مؤخرا ببيان وحدة أتى على كل ما بناه الأمريكان من أمل في ملالفصل بين الدولتين اللتين أصبحتا تتطلعان إلى تشكيل قطب مواز لأمريكا يحافظ على مصالحهما في العالم…ولهذا السبب لم تجد أمريكا بُدا، بعد استنفاد ما لديها من سبل الإغواء، إلى تسخين ملف أوكرانيا مجددا في أفق الضغط في اتجاه هدفها الاستراتيجي ذاك.
روسيا ووضعية الزاوية المغلقة
إن أمريكا تدرك جيدا قيمة أوكرانيا التاريخية والاقتصادية والأمنية بالنسبة لروسيا، فهي بالنسبة إليها خط أحمر. ولهذا الاعتبار فهي لا تنتظر أبدا أن تتخلى روسيا بسهولة عن أوكرانيا لحلف الناتو. ومن جهته، يشعر بوتين بأن الظرف الدولي مواتٍ للحسم في موضوع أوكرانيا نهائيا وإلا بقيت روسيا مهددة بملفها إلى الأبد. وفي تقدير بوتين، أن ليس في مقدور أمريكا ولا أوروبا أكثر مما هو قائم الآن؛ خاصة بعد أن جربت العقوبات الغربية وتحملتها، وفوق ذلك، فإن روسيا ترى أن شغل أمريكا الشاغل اليوم هو مواجهة الصين، ولذلك لن تقدم على ضم أوكرانيا لعضوية الناتو بسبب ما يلزم ذلك من موارد أمريكية للدفاع عنها، وهو ما سيضعف الإعدادات الأمريكية في الشرق الأقصى لمواجهة الصين… كما أن روسيا لا تقيم وزناً لمواقف أوروبا التي ترى مصالحها في استمرار التعاون الاقتصادي بينهما خاصة فيما يتعلق بموضوع الطاقة. وعلى هذه القراءة تتحرك في “الرقعة” وتصر على إدراج موضوع الضمانات في أي حل ديبلوماسي مقبل للأزمة؛ ضمانات أمنية على الأمد الطويل في موضوع جزيرة القرم كجزء منها، واستقلال شرق أوكرانيا، بالإضافة إلى التعهد بعدم قبول انضمام أوكرانيا إلى الناتو.
في المقابل يلاحظ المراقب أن استراتيجية الولايات المتحدة تقوم على الاستفزاز ومحاولة دفع روسيا إلى غزو أوكرانيا لتتورط في أوحالها وتورط أوروبا معها، فتضرب عصفورين بحجر واحد: من جهة تعيد الهيمنة الأمريكية على أوروبا بحجة الوقوف صفاً أمام عدوانية روسيا، وهو ما يتنافى مع فكرة تعدد الأقطاب التي طالما نادت بها أوروبا، ومن جهة أخرى اتخاذ هذا الغزو مطية لتفكيك التحالف الناشئ بين روسيا والصين، إذ يمكنها الضغط ساعتها على الصين بقرارات أممية وتهديدها بتجارتها مع الغرب من أجل الابتعاد عن روسيا المُعتدية على أوكرانيا: فإن خضعت الصين وابتعدت عن روسيا فإن أمريكا تكون قد كسبت هدفاً كبيراً، وإن خضعت روسيا لمختلف أنواع العقوبات وانسحبت من أوكرانيا بعد غزوها فإن مطالب أمريكا ستلاحقها شرقي أوكرانيا، بل وفي جزيرة القرم بما يحرم روسيا من أي مكاسب من غزوها لأوكرانيا، بل سيجر عليها الويلات، بما يشبه تجربة روسيا في أفغانستان .
وعليه فإن استراتيجة “اللعب” بين أمريكا وروسيا على رقعة الشطرنج الأوكرانية تبدو واضحة: فروسيا تسعى “بتنقيلاتها” نزع ضمانات أمنية من أمريكا في أوكرانيا دون أي توافق معها بشأن الصين، فإن تحقق لها ذلك فإن كفة روسيا ستكون هي الراجحة في هذه الأزمة، وهذا مستبعد إلا أن يحدث تنازل روسي في فك روابطها مع الصين لمصلحة أمريكا. وأما إذا تورطت روسيا أكثر في الحرب فإن أمريكا بلا شك ستفوز بنقلة ” شاه مات”.