سعيد منصفي التمسماني
إن الضجة التي تُحدثها بعض وسائل الإعلام العربية بشأن اتفاق السلام المبرم بين إسرائيل والإمارات، إنما هو ضحكٌ على الناس، واستخفافٌ بعقولهم، وسبيلٌ نحو التضليل، ومحاولة رسم مشهد مُزور لإضفاء المزيد من الغموض، والتأثير على المشاهد العربي، بهدف تهييئه نفسيا من أجل تقبل ’’الصفقة الكبرى‘‘.
ولو استمرت المسرحية الهزلية العربية دون تغيير مضمون نصها، واستمر الكذب على ما هو عليه، فسيأتي يوم سيصدق فيه الناس الرواية الإسرائيلية أكثر من تصديقهم للرواية العربية الرسمية، و لا أبعد إذا قلت إن هذا الأمر أخذ يحدث في بعض الأوساط الاجتماعية، وأضحى الكثيرون لا يرتاحون إلى القصاصات الآتية من مصادر سياسية وإعلامية عربية حتى لو كانت صادقة.
وعندي، أن حكام الإمارات، بالرغم من انخراطهم في اتفاقية الخزي والعار مع إسرائيل، إلا أنهم أشرف من بعض الدول العربية ومنابرها الإعلامية. ذلك لأن الطرف الأول أراه قد تحلى ـ على الأقل ـ بالشجاعة وأسقط القناع عن وجهه وبدت ملامحه واضحة، واستسلم أصحابه استسلاما بواحا، وقالوا لمذهب المقاومة مثلما قالت فئة من بني إسرائيل لطالوت: ﴿لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾. أما الطرف الثاني، فإنه يستغل الحدث، ليس غيرة ودفاعا عن القضية الفلسطينية كما يدعي، وإنما فقط لتصفية الحسابات الضيقة فوق رقعة تلك القضية الشريفة ودماء شهدائها. ولعلّكَ أدركتَ كم من حساب صفّاه هذا الطرف الأخير ـ أحيانا بتحالف مع الطرف الإماراتي نفسه ـ فوق أراضي الآخرين باسم الدين أو الديمقراطية ومحاربة الاستبداد، وكم من أرواح أزْهِقت ومن أطفال يُتِّمت ومن جماعات هُجّرت ومن أملاك نُهبت ومن أعراض انُتُهكت، وكم من تضليل إعلامي رافق كل ذلك، حتى لم يعد يصح في أذهان الناس شيء من كثرة التزوير الذي طغى على المشهد.
هل بقي في العالم العربي من لم يطبّع مع إسرائيل، إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟ وهل يوجد هناك من يستطيع أن يرفض طلبا لواشنطن أو أن يسير في اتجاه معاكس لسياساتها؟ واهمٌ من يظن ذلك، أو من يعتقد أن دولا بعينها تناور أو تتحايل على القرارات الأمريكية لصالح القضية الفلسطينية، فالكل خاضعٌ للعبة الأمريكية، بدءا بالسلطة الفلسطينية ذاتها التي طبّعت مع إسرائيل بشكل رسمي منذ اتفاق أوسلو أو ما قبله بقليل، مرورا بدول الجوار الإقليمي، ووصولا إلى تركيا التي اعترفت بإسرائيل منذ مدة طويلة ويقيم نظاميهما علاقات ثنائية اقتصادية وأمنية متينة.
أما ما تقوم به إيران في المنطقة، فهناك من يصنفه ضمن أعمال المقاومة، وأنا أعتبره ضربا من ضروب الدفاع عن المصالح الخاصة وعن المشروع الإيراني باستخدام الورقة الفلسطينية، وربما تصُب الحركات التي يقوم بها النظام الإيراني في خانة مصالح واشنطن وتل أبيب، ولست أدري إن كان يقوم بذلك عن وعي أو غير وعي، لكن ما أنا متأكدٌ منه هو أن تلك الحركات المخيفة لدول الجوار تدفعها يوما بعد يوم إلى طلب المزيد من الحماية الأمريكية والارتماء في حضنها والتودد لإسرائيل، وإلى استنزاف ثروات شعوبها مقابل تلك الحماية. ولن أتفاجأ غدا إذا ما حصل تفاهم بين الجانبين الأمريكي والإيراني لتقاسم المصالح وتبادل الأدوار في المنطقة، مثلما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ومثلما حدث في الاتفاق النووي مع إدارة باراك أوباما، أو ما حدث قبل ذلك بعقود في قضية ’’إيرانغيت‘‘ وصفقة الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران في عهد آية الله الخميني.
الذين يقولون لا للتطبيع أضحوا اليوم غرباء في زمن التطبيع وزمن الهرولة نحو إسرائيل طلبا للحماية والتكنولوجيا والفوائد الاقتصادية بعد أن أصاب الوهنُ جسمَ الأمة وضعفت مناعتها وعُطلت طاقاتها فاستعصى عليها الإنتاج وأمست مستطيعة بغيرها ومزرعة يجني ثمارها الأجانب .. ومن ثمة، لا يُزايد نظامٌ على نظام أو وسيلةُ إعلامٍ على أخرى من حيث التطبيع، لأن الجميع في هذه المسألة سواء، وما كل هذه الحركات المُنبعثة من هنا أو هناك، إلا نوع من السفسطة بغية تضليل الرأي العام العربي وكسب تأييده واستعماله كأداة ضغط لإثارة الفتن الداخلية وإشعال مراجل الحروب العبثية.
أما مسألة مبدأ عدم التطبيع، فهذه قضية أخرى، ومعركة كبرى، قوامها فكرٌ وإيمان، وثقافة شعبية راسخة، يقودها الشعب بنفسه ويرعاها، لأنه هو من ينتجها وهو صاحبها وسيّدها، وبها تتحدد نظرته إلى الأمور، لتكون نظرة حقيقية لا يخالطها الدجل والتزوير.