نعرض ملاحظتين أساسيتين قبل الخوض في الموضوع:
الأولى، تتعلق بمسألة الإجماع حول الوحدة الترابية. فالمغاربة رغم اختلافهم بشأن قضية التطبيع، إلا أن أحدا لا يجادل في مغربية الصحراء .. ويظل الاختلاف قائما حول الكيفيات: بين من يدافع عن ما يعتبره نوعا من ’’الواقعية السياسية‘‘، وبين من يرى أن هذه الواقعية لا يجب أن تُفقد المواطنَ المغربي إحدى أهم مقوماته المتمثلة في كونه كائنا فاعلا، وبالتالي قادرا على حماية حقوقه السيادية دون التخلي عن مبادئه.
الملاحظة الثانية، تتعلق بالاعتراف بقدر من هامش حرية التعبير الموجود في المغرب، والذي يتيح للمغاربة التعاطي مع الموضوع المطروح بنوع من الجرأة التي من خلالها يمكن فتح نقاش عام قد يؤدي إلى المصارحة وبسط الحلول، وذلك إذا ما تم الأمر وفق قواعد الحوار المتعارف عليها والاحترام المتبادل بين أطرافه.
ونؤكد على هذه الملاحظة، بالرغم من إقدام السلطات على منع وقفة احتجاجية يوم الاثنين أمام البرلمان دعت إليها مجموعة من الهيئات للتنديد بتطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل. وقد أصدرت تلك الهيئات بلاغا اعتبرت فيه أن المنع لوقفة احتجاجية سلمية بواسطة كم هائل من القوات الأمنية ’’هو تعبير عن عزم المخزن فرض التطبيع مع الكيان الصهيوني بالقوة وتكميم أفواه الرافضين له‘‘، حسب ما ورد في البلاغ المذكور.
وبعد تقديم الملاحظتين السابقتين، نتطرق الآن إلى المواضيع المرتبطة بالإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، وطرح بعض الأسئلة بشأنها.
* * * *
أولا، يجب التذكير، بأن ما حدث يأتي ضمن سياق دولي خاص، يتميز بالأساس بإعادة تنظيم التكتلات الدولية، وإدماج منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضمن خرائط جيوسياسية جديدة تتماشى مع المشروع الأمريكي الذي تقوده واشنطن منذ عقود، لبسط هيمنتها على المنطقتين دون منافس أو منازع، وبأدوات إقليمية. وفي هذا المشروع الجديد، لا تملك الدول العربية إلا هامشا ضئيلا من المناورة، وقدرا يسيرا من الإرادة، نتيجة تراكمات أفرزتها عقودٌ من الفساد والاستبداد، وإهمالٍ للإنسان، ومَيلٍ إلى التشرذم والحروب العبثية والاستقواء بالآخر .. فلا عجب، إذن، أن نرى هذه الدول، وهي توقع على اتفاقيات يمكن تسميتها بعقود ’’إذعان‘‘، تتخلى بموجبها عن بعضٍ من حقوقها السيادية وقضاياها التاريخية العادلة، وهي جميعها خاضعة للإملاءات الأمريكية، دون أي استثناء، ودون إعارة أية أهمية لبعض الشعارات التي تعلنها هذه الدولة أو تلك.
وما حدث، يأتي في نفس الوقت، ضمن مشهدٍ دولي، لم يتغير إلا قليلا بشأن قضية الصحراء المغربية، حيث إن الأزمة، منذ اصطناعها، وهي تتأرجح في الأمم المتحدة بين سياسة ’’نعم‘‘ و ’’لا‘‘، وِفق توصيف الراحل محمد عابد الجابري، أي، أن المجتمع الدولي يقول ’’نعم‘‘ للمبادرة المغربية بشأن الحكم الذاتي، لكنه في نفس الوقت يعود ليؤكد على مبدأ ’’الحق في تقرير المصير‘‘، ومن ثمة تظل الأطراف المتنازعة ملازمة لمواضعها، مستهلكة لطاقاتها.
وسياسة ’’نعم‘‘ و ’’لا‘‘ هي في حقيقتها سياسة استنزاف، تساهم في إطالة النزاع الذي تستفيد منه القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وتستفيد منه بعض الدول الأوروبية المجاورة كإسبانيا التي يبدو أن قرار ترامب بالاعتراف بمغربية الصحراء لم يَرُقْ لها لأنه يسير ضد مصالحها وامتيازاتها في المغرب مما دفع بوزيرة الخارجية الإسبانية، أرنشا غونثاليث لايا، إلى القول بأن حلّ قضية الصحراء ’’لا يعتمد على إرادة واحدة أو عمل أحادي الجانب لدولة مهما كان حجمها‘‘، مضيفة في تصريحات أدلت بها لإذاعة ’’أوندا ثيرو‘‘ أن الملف ما يزال في يد الأمم المتحدة وأن الحكومة الإسبانية قد شرعت في إجراء اتصالات مع فريق بايدن لــ ’’العودة إلى التعددية‘‘ حسب تعبير الوزيرة. والعودة إلى ’’التعددية‘‘ في تقديرنا، تعني ملازمة سياسة ’’نعم‘‘ و ’’لا‘‘ إلى ما لا نهاية، وإبقاء مشكل الصحراء شوكة في خاصرة المغرب .. فالمسألة، إذن، بشأن قضية الصحراء المغربية، هي مسألة مصالح بالنسبة للمتدخلين الدوليين فيها، و لا أحد يرغب في تسويتها.
والحدث الذي نحن بصدده، تسري مجرياته في ظل وضع اقتصادي خطير يهدد بشكل فعلي السيادة الاقتصادية للمغرب. فالدولة حاليا، بسبب تداعيات وباء كورونا، تمر في مأزق حاد، وتعتمد ماليتها بشكل كبير على القروض التي تحصل عليها، كان آخرها مذكرة تتعلق بقرض من اليابان بقيمة 200 مليون دولار، وقرض جديد من طرف الصندوق الدولي بقيمة 400 مليون دولار، وإصدار الحكومة المغربية، في الآونة الأخيرة، سندات في السوق المالية الدولية بقيمة 3 مليارات دولار موزعة على ثلاث شرائح، لتوفير سيولة نقدية للإيفاء بالتزامات المملكة تجاه النفقات المحلية. ونظرا لهذه القروض الثقيلة التي تصاعدت وتيرتها بشكل لافت منذ شهر مارس الماضي، فإن حجم الدين العمومي أضحى يعادل أزيد من 76 في المائة من الناتج الداخلي الخام، حسب تقديرات البنك المركزي، ويتجه الاقتصاد المغربي بناء على ما جاء في بيان لصندوق النقد الدولي نحو نسبة انكماش تقدر بــ 7 في المائة في أفق 2020، كما أنه من المتوقع أن ترتفع نسبة البطالة إلى 14,8 في المائة وفق تقديرات المندوبية السامية للتخطيط.
والظاهر، أن اللجوء إلى سياسة القروض، بالرغم من كل مخاطرها، لم تُجْد نفعا لتعديل الوضع المالي، إذ كشفت وزارة الاقتصاد والمالية عند نهاية الأسبوع الماضي أن وضعية تحملات الخزينة ومواردها سجلت حتى متم شهر نونبر المنصرم عجزا في الميزانية بقيمة 59,2 مليار درهم، وبارتفاع قدره 18,7 مليار درهم مقارنة مع السنة الماضية. والحالة الاقتصادية، مرشحة بصفة عامة إلى أن تسوء، واستعادةُ عافيتها قد يتطلب وقتا ليس بالقصير، وقد تكون تكلفته ثقيلة على عدة مستويات، وثمة خطر جدي على الأبواب ينذر بعودة المغرب إلى ظروف اقتصادية شبيهة بتلك المرتبطة ببرنامج التقويم الهيكلي في ثمانينيات القرن الماضي.
وإذا نظرنا إلى هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة ثم أضفنا إلى المشهد العمليات الاستفزازية والتهديدية المكلفة التي يحركها النظام الجزائري بواسطة أدواته في الصحراء المغربية، وإلى ما يتسبب فيه كل ذلك من تنازلات اقتصادية من طرف المغرب للاتحاد الأوربي ولبعض دوله على وجه الخصوص، إذا نظرنا إلى الصورة كاملة، اكتشفنا حساسية المأزق الذي يتواجد فيه المغرب في الوقت الراهن واقتصاده على وجه الخصوص.
والكلام المُعْلَن، لا نقصد به تبرير قرار التطبيع الذي اتخذته السلطة السياسية، إنما هو توصيفٌ لجزء من المشهد المغربي وتوضيح لبعض معطياته الاقتصادية التي يجب استشراف أبعادها ونتائجها والتعامل معها بموضوعية ومسؤولية ساعة إجراء كل تحليل أو اعتماد رأي.
ولعل رهان المغرب على اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء، هو المعول عليه من طرف السلطة السياسية لتحريك العجلة الاقتصادية وتوظيف الموارد التي تُتحيها الأراضي الصحراوية والخروج من الضغط الاقتصادي ولو بشكل مؤقت، لأن الاعتراف الأمريكي، وإن كان لا يغير الأوضاع القانونية على مستوى الأمم المتحدة، إلا أن تأثيره على الدوائر المالية الدولية لاشك أنه سيكون فعالا وفوريا، وهذا ما يُسْتَنج من كلام وزير الصناعة والتجارة، حفيظ العلمي، في تصريح لجريدة هسبريس، حيث اعتبر ’’أن مخاوف المستثمرين الأمريكيين في ما يتعلق بالأقاليم الجنوبية للمملكة سيتم تجاوزها بعد قرار الاعتراف بسيادة المغرب‘‘، مبرزا أنه ’’في السابق كانت عملية الاستثمار في الصحراء المغربية تتوقف لدوافع سياسية وجاء قرار الولايات المتحدة الأمريكية لجعل هذا الأمر متجاوزا‘‘، حسب تصريحه.
* * * *
على ضوء المواضيع المعروضة أعلاه، من حق المواطن أن يطرح أسئلته بشأنها وأن يطالب بأجوبة وتوضيحات حيالها: هل كان بالإمكان عدم الوقوع في هذا المأزق الاقتصادي؟ ومن يتحمل مسؤوليته؟ وهل يمر حلّ قضية الصحراء المغربية عبر تل أبيب أم عبر الجهود الذاتية؟ وما تأثيرات قرار التطبيع على شؤوننا السياسية والاقتصادية وثوابتنا الدينية ومنظومة قيمنا الأخلاقية التي تعد جزءا من هويتنا مذ نشأة دولة المغرب الأقصى؟ هل يستطيع المغرب المزاوجة بين الدفاع عن حقوق الفلسطينيين والاعتراف في آن واحد بإسرائيل القائمة في أصلها على أساس إلغاء حقوق الفلسطيين أنفسهم؟ أي هل يمكن الجمع في السياسة بين الشيء ونقيضه؟ هل يمكن تَفهُّم إكراهات السلطة السياسية؟ وهل انفصلت هذه السلطة بقرارها عن اختيارات المجتمع أم أن المجتمع بدوره ينقسم تجاه هذه القضية إلى مذاهب شتى؟ وهل بالإمكان فتح نقاش عمومي دون تجريح ودون اضطهاد يصب في المصلحة العامة للمغرب ويساعده على تفادي أخطاء الماضي؟ …إلى غير ذلك من الأسلئة التي يجب التعاطي معها بأقصى درجات الانفتاح والمسؤولية.
إن الحدث الذي يعيشه المغرب لا ينفع معه أسلوب التخوين، لأن هذا الأسلوب إن كان يجدي مع وقائع على شاكلة ما رُوي عن الوزير ابن العلقمي وما عقده مع هولاكو، فإنه لا يصدق تجاه الوضع الراهن بكل ما يحمله من تعقيدات سياسية واقتصادية واجتماعية. ثم إننا أمام قرار سياسي يجب التعامل معه كحلقة من حلقات التاريخ وليس كنهاية للتاريخ.
ومثلما لا يصح أسلوب التخوين، كذلك لا يصح أسلوب المديح، لأنه يؤدي إلى حجب الحقائق، وتمييع النقاش، وعدم تحديد المسؤوليات، والتمادي في الأخطاء، والمماطلة في تنزيل الإصلاحات. فما نحتاجه اليوم هو: النقد البناء، وتصحيحٌ حقيقيٌّ للمسار الديمقراطي، وإصلاحٌ فعلي للمؤسسات والمرافق العمومية وتجويد للأداء الاقتصادي والخدمات الاجتماعية.ثم إذا ما نحن التزمنا بواجباتنا، جاءت النتائج على قدر أدائنا، وكنا حينها نافعين لأنفسنا، وربما لغيرنا ممن ينتظر دعمنا.
(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)