الفهرس/سعيد منصفي التمسماني
يثور الحديث بين الفينة والأخرى في بعض وسائل الإعلام عن العلاقات البريطانية المغربية، فهناك من يستحضر تاريخ تلك العلاقات منذ أيام السعديين، بينما يذهب آخرون لفتح أسئلة حول مشاريع ’’الإصلاحات‘‘ التي اقترحتها بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر على المخزن عن طريق نائبها في طنجة جون درمند هاي .. وقد اقترن هذا الاهتمام في السنوات الأخيرة بالإعلان الصادر من الرباط في في الخامس والعشرين من دجنبر/كانون الأول 2020 حول التطبيق المؤقت لاتفاق الشراكة المبرم بين المغرب وبيرطانيا، وهو ما شكل مادة دسمة لانطلاق العديد من الرؤى والتحليلات التي تناولت أبعاد العلاقات البريطانية المغربية وآفاقها وجدواها.
وفي هذا السياق، نريد أن نلامس فترة مهمة من التاريخ الحديث للمغرب، انطلقت من منتصف القرن التاسع عشر، مع ما تخللها من محاولات إصلاحية، سواء بمبادرة مغربية ذاتية أو بإيعاز من بعض القوى المتدخلة في الشأن المغربي بعدما أن تم تدويل الأزمة الاقتصادية التي كان يعيشها المغرب آنذاك.
ولإلقاء الضوء على تلك الفترة، نستعين بجزء مما كتبه المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي حول الموضوع في كتابه ’’مجمل تاريخ المغرب‘‘ .
* * *
الإصلاحات وعدم جدواها
يقول الأستاذ العروي في هذا الصدد**:
’’منذ عقود والكتّاب المغاربة، المتخصصون وغيرهم، يردّدون نفس الكلام على الروح الإصلاحي الذي طبع سلوك السلاطين وبعض الأعيان، وذلك ردّا على الدعاية الفرنسية المغرضة. وهذا موقف له مبرّراته، سيما وأنه كشف عن وثائق هامة تثبت عكس ما أشاعه أقطاب الحماية.
لكن ما يهمنا هنا غير ما تعرّض له أولئك الباحثون. هم يلحّون على الدوافع والنوايا فيما نتعقّب نحن النتائج التي لم تكن، والحال كما أوضحنا، في مستوى الطموحات. كان السلاطين والوزراء يعتقدون أنهم يواجهون الرجال في حين أنهم كانوا أمام نظام شامل اقتصادي ـ اجتماعي ـ ثقافي لم يدركوا منه إلا لقطات جزئية تنعكس مشوهة في مرآة المفاهيم والعبارات المعهودة لديهم.
أمام ضخامة التحديات وكثرة الظواهر السلبية كان لا بدّ أن يتّسم ردّ فعل المخزن بالالتباس والمماطلة وفي النهاية بعدم الجدّية. كان الجديد يفهم على ضوء القديم المعتاد، وهذا واضح في مسألة الصرف. أدرك عبد الرحمن أن الإصلاح، أي إصلاح، لا يتم في حالة تطويق دولي، فلجأ، إلى حماية إنجلترا. وبالفعل، طيلة خمسين سنة من 1246هـ/1830م إلى 1298هـ/1880م لعبت إنجلترا تلك الورقة ودافعت بقوة عن استقلال المغرب ووحدة أراضيه. إلا أن السياسة الإنجليزية كانت متناقضة: تدافع من جهة عن سلطة المخزن ومن جهة تطالب بإصلاحات تؤدي حتما، في الظروف القائمة آنذاك، إلى إفراغ تلك السلطة من كل محتوى. كانت الإصلاحات تعفي الأغنياء وتثقل كاهل الضعفاء. وكان الأغنياء وهم المستفيدون من الإصلاح يرفضون تمويله ويؤسسون منشآت تضر بمصلحة الفقراء. وأوّل من وعى هذا التناقض هو نائب إنجلترا في طنجة، جون درمند هاي، الذي صرّح في إحدى رسائله الخاصة أنه غير مقتنع أن الإصلاحات المقترحة تعيد الحياة إلى شجرة الإسلام الذاوية.
مرة أخرى نرى أن الإصلاح، في الظروف التي تم فيها، أدخل المغرب، بعد مصر وتونس، في حلقة مفرغة، وأوضح دليل هو ما حصل للجيش. كان الهدف من إنشاء العسكر، جيش نظامي جديد، هو الدفاع عن استقلال البلاد، لكنه استخدم في النهاية لإخماد الثورات المحلية وتأمين المسالك حتى تتمكن المصالح الأجنبية من التوغل في داخل القطر. أما سياسة عبد الرحمن القاضية بتعيين رجال أقوياء وتخويلهم سلطة مطلقة لإقرار الأمن والسكينة فإنها أدت فقط إلى تكوين طبقة من ’’القياد الكبار‘‘ أصبحت فيما بعد أهم دعائم الحكم الاستعماري. تقرّب منهم سماسرة التجار الأجانب وشجعوهم على التمادي في استهلاك الكماليات. فاستدانوا لدى أولئك التجار أنفسهم ثم استولوا على أراضي الجماعات وباعوها للأجانب دون رخصة. وأصبحت قضية ديون القياد والشيوخ من المسائل التي قضّت مضجع السلطان الحسن الأول.
لا يتعلق الأمر إذن بالأخلاق أو بالنوايا بقدر ما يتعلق بوضعية معقّدة تفرغ كل إجراء إصلاحي من محتواه فيصبح بدون مفعول أو تغيّر مجراه حتى يؤدي إلى خلاف المقصود منه، وكل ذلك يخدم مصلحة الأجنبي.
تأخرت لحظة الحسم وطالت مأساة المغرب. لكن انطلاقا من سنة 1298هـ/1880م، بعد أن فشل مؤتمر مدريد في مهمته الأصلية، وهي الحد من انتشار الحماية الفردية، فقدت الدولة المغربية هيبتها. أصبحت رمزا يذكّر بكيان تاريخي ولم يعد يعني نظاما يأمر فيُسمَع ويُطاع. ونجدد في هذا الصدد ما قلناه عن وضعية تونس: إن حفاظ المغرب الأقصى على استقلال صوري لا يعود فقط إلى تنافس الدول الأوربية فيما بينها، كما يقال عادة، وإنما إلى عدم استعداد أي طرف آنذاك، عسكريا وماليا، لتحمّل تكاليف إخضاع المغاربة بعد تحطيم ما تبقى من الجهاز المخزني.
هناك فرق طبيعي بين الباحث المدقِّق المنغمس في جزئيات الأحداث والمحلل الاجتماعي الذي يطمح إلى إلقاء نظرة بانورامية على مجموع البلاد. يرى الأول السلاطين ووزراءهم يفاوضون يوميا ممثلي الدول في ظروف صعبة ومؤلمة، فالبنسبة إليه كل السلاطين وكل الوزراء وكل الكتّاب يتشابهون إذ الصعوبات واحدة والإجراءات واحدة وأسلوب القول والعمل واحد. أما الثاني فإنه يرى كل سلطان في محيطه الخاص وزمانه الخاص. يبدو عبد الرحمن وبعده محمد الرابع في دور بطل المأساة الذي يخونه القدر فيخيب مسعاه رغم عُلوّ هِمّته، ويظهر الحسن الأول في صورة بطل المبكية يتنقّل بين أطراف المملكة يرمّم هذا الجانب قبل أن ينهدم ذاك، ثم يأتي عبد العزيز وبعده الحفيظ ليشخص مسرحية مضحكة مخزية حيث ينزلق المجتمع المغربي كله في هاوية لا حدّ لها. ما حصل بعد وفاة الحسن الأول (1311هـ/1894م) وإلى سنة فرض الحماية على المغرب (1330هـ/1912م) لا يعلي من شأن أي من المشاركين فيما سمي بالمسألة المغربية: لا أرباب البنوك الذين كانوا يجرون الخيوط في الكواليس، ولا الدبلوماسيون الذين ناوروا وخادعوا وحاكوا المكائد، ولا أعضاء المخزن الذين فقدوا كل مروءة وانقادوا لحكم القدر .. صورة مشينة لكنها عارضة، وليدة الظروف والأقدار، لا تعبّر عن حقيقة المغرب الدائمة كما قال ذلك معظم المؤلفين الأوربيين طيلة قرن كامل ‘‘.
ــــــــــــــــــــــــ
**المصدر: عبد الله العروي، من كتاب ’’مجمل تاريخ المغرب‘‘، الطبعة الأولى 2007، ص.، 565 إلى 567.